بيانات كثيرة، تلك التي صدرت بُعيد جريمة "الدالوة" الإرهابية. وهي البيانات التي ركزت على نبذ الخطابات الطائفية، ورفض الدعوة إلى الكراهية، وأهمية سن قوانين واضحة تحمي السلم الأهلي وتُجرّم الحركات التكفيرية أو التحريض ضد الآخر في المملكة. كل ذلك يأتي بالتوازي مع التأكيد على أن العنف وحمل السلاح بهدف التغيير أو الترهيب، هو أسلوب مرفوض، كونه لا يقود إلا إلى "الفتنة" التي تفتح أبواب جهنم!. بالنظر للنقاط السابقة، نجد أنها تقود إلى جهة واحدة، ألا وهي دولة "المواطنة"، بوصفها الحاضن الجامع لكل المكونات الوطنية التي تعيش على تراب الدولة، وتشترك مع بعضها البعض في ذات الحقوق، وتتحمل نفس الواجبات، دون تمييز أو تفاضل لفئة أو فرد على الآخر. هذه الكيان "دولة المواطنة"، والتي تُمثل شكلاً مدنياً للتعاقد الاجتماعي، هي موضوعة غير محبذة عند أصحاب الخطابات "الأصولية"، التي اعتادت على المفاهيم الفضفاضة ذات البعد الأممي، حيث النزوع لمفهوم "الأمة"، عوض الدولة القُطرية، وبالتالي لا مداليل سياسية أو فكرية للحدود القائمة بين الدول، فهي بنظر السواد الأعظم من الكتابات "الأصولية" وحتى تلك الإسلامية الكلاسيكية، حدود مصطنعة وضعها الاستعمار، يجب تجاوزها وعدم الإذعان لها. هذا المفهوم الهلامي ل"الدولة"، يتناقض والرؤية الفلسفية للدولة الحديثة، والتي يرى الفيلسوف الألماني هيغل، أن الدولة هي "كنه تطور التاريخ"، الذي يكون الإنسان جزءاً رئيساً منه، لكنه ليس فوقه أو مناقضا له، فالحرية بنظره، لا تتم إلا وفق منظومة الدولة التي تحتضن الجماعة البشرية. وبالتالي، فإن المسؤولية هنا تكون تبادلية، بين الدولة التي تقوم على خدمة الفرد/المجتمع، والمواطنون الذين يمارسون حريتهم ضمن هذا الإطار الجامع. وفق هذه النظرة الفلسفية، يتمأسس النظام الحديث، الذي تكون فيه قيمة المواطنة هي الأساس، وهي المعيار التفاضلي، الذي لا يدانيه أي معيار آخر. فالدولة الحديثة هي التي يمارس فيها الفرد حقوقه، بغض النظر عن أي تمايز ديني أو عرقي أو جنسي. هذه الدولة المحتضنة لمختلف مكونات المجتمع، هي ما نتلمسها بين طيات عبارات كتابات عدد من المثقفين السعوديين، والبيانات، والتي صدرت منددة ب"جريمة" الدالوة، ومنها بيانا علماء القطيف والأحساء، حيث أتيا ليعليان من شأنه مرجعية كيان "الدولة"، عبر أحد أهم العوامل وهو "بسط الأمن والاستقرار". لأن الاستقرار شرط للتنمية، وأرضية مهمة لورش العمل الفكرية والقانونية التي من خلالها يتم التأسيس للأنظمة والتشريعات التي تحفظ السلم الأهلي وتحترم حقوق الإنسان. إلا أن النقطة الجد مهمة معرفياً، هي الدعوات ل"عدم تسييس الدين"، أي فك الالتباس بين ما هو ديني وما هو دنيوي. وهي الدعوة التي تتماشى والسياق العلمي لماهية الدولة، وتشاكس ما هو متوارث ومعهود في تنشئة البيئات العربية الكلاسيكية. في البيانات تبرز إشارة صريحة لمجاميع "الأصوليين" و"الإسلام السياسي" و"التنظيمات المسلحة"، وهي برأي الموقعين جماعات وتيارات متطرفة تمارس الإرهاب والعنف تحت عناوين دينية وسياسية، تروم من خلالها إحداث فتنة مجتمعية. وهو التوصيف الذي لم يقف عنده علماء القطيف والأحساء، بل جاوزوه ليصدروا حكماً معرفياً وأخلاقياً، حيث الدين "بريء من الإرهاب"، وأن العنف هو فعل "مدمر للأوطان". ما سبق، يتقاطع مع نظرة الفيلسوف الألماني ماكس فيبر، والذي يرى أنّه لا يمكن تعريف الدولة إلاّ عبر «العنف الفيزيقي» (بوصفه الوسيلة الطبيعية للسلطة) الذي يحتاج الى «شرعنة». أي إن الدولة وحدها تملك أدوات الإكراه المشروع، وفق الباحثة المغربية إكرام عدنني. فيبر رؤيته تقوم على "مقاربة مفاهيم الإكراه والقوة والعنف كأساس لتعريف الدولة الحديثة"، وذلك وفق "ثلاثة معايير: القدرة، السيطرة، التنظيم". ومع تأكيده على أن "الدولة هي التجمع الوحيد الذي يحتكر ممارسة القوة الشرعية". وبالتالي فإن أي عنف أو حمل للسلاح تمارسه الأفراد أو الجماعات، هو سلوك مناقض ومقوض لمفهوم "الدولة الحديثة". حيث العنف تصرفٌ يُجرمه القانون. إن اللغة المتزنة والعلمية، والتفكير بشكل علمي، من شأنه أن يؤسس لخطوات تالية، تستند على ترسيخ مدنية الدولة، وعلى الحوار والتواصل بين مكونات المجتمع ومؤسساته، وعلى القانون والعمل السلمي كأدوات لتنمية المجتمع والأفراد، وهي القيم التي من المهم دعمها وترسيخها كمرجعية وحيدة تنبذ العنف وتحيده من أي طرف كان.