الوطن العربي مطبخ جمع في طعامه السموم والمتناقضات، وقدم وجبات التحرر ثم الانقلابات لإنتاج الدكتاتوريات العسكرية، وذهب للحروب بالنيابة عن القوى الكبرى ليس بعقيدته القومية أو وحدته واتحاده، وإنما برفع شعارات يتغنى بها اللاعب ويقدمها باسم الخلاص من الإمبريالية والاستعمار، ليرد الجانب الآخر بالاستعمار الاقتصادي والثقافي والعسكري المستتر، فتحولنا إلى ساحة تصفيات وخصومات وهزائم عسكرية، وملاحقات قانونية لبعض الزعامات والأحزاب إلى أن رُفعت رايات الاستسلام لنفوذ الدولة الأقوى لبسط نفوذها الشامل.. فتحنا أراضينا للقواعد الأجنبية باسم الحماية من العدو، والعدو ترعاه تلك الدول وتغذيه وتدعمه وتسلطه علينا كحقيقة ثابتة لدرجة أن المعادلة بين العرب وإسرائيل جاءت لصالح الأخيرة؛ لأنها الحقيقة الثابتة في المعادلات السياسية والعسكرية، والعرب هم الهامش وقبلنا هذا الوضع بعقولنا ونفيناه بتصريحاتنا ومواقفنا، حتى إن أحد المسؤولين الأمريكيين قال «دعوكم عما يقوله المسؤولون العرب حتى في تقديمنا كأهل الشر، فإن ما يصرحون به أمامنا يختلف تماماً، فهم يؤيدون مواقفنا وتصرفاتنا وجميع سياساتنا بدون تحفظ».. وليت الأمر يقتصر على لعبة القوى الكبرى، وإنما صار هناك من يهندس لنا أسلوب تدخله بواسطة عناصر منا، فإيران، على سبيل المثال، ورطت حماس مع إسرائيل ليتم تدمير غزة، واختطفت العراق لتدخل القاعدة ثم داعش، وتبدأ حروب المليشيات، كذلك الأمر بتركيا التي لا تزال مواقفها عجيبة وغريبة، يد تصافح حلف الأطلسي، والإبقاء على قواعده، ورفض لمخططاته في سورية إلا بنزع أنياب الأسد لإيقاف داعش، بينما الأسد وداعش يخدمانها في ضرب حزام الكرد وتمزيق ساحتهم حتى لا تطل دولتهم، حتى بوجود أقليتهم في داخلها.. أوباما أظهر عزماً بانتهاج سياسة الابتعاد عن المنطقة العربية لأنها بؤر إرهاب وفساد، والتفرغ لآسيا القادمة بقوة كمنافس، غير أن الأوضاع الجديدة أجبرته على إدارة حرب الطلعات الجوية، وهو ما يراه البعض ترضية للصقور في الداخل، واستنزاف الدول المتورطة في الحروب ومكافحة الإرهاب، وأنها بلا جدوى إلاّ البحث عن فرض هيبة القوة العظمى وجر حلفائها إلى المواقع المتوترة.. الشكل العام للحالة العربية وحتى المحيط الإقليمي لها لا يفسر بإهمالها ولكن بجعلها ساحة حرب وتدخلات لأنها الموقع الفاصل بين القارات، لكن هل الاستقرار أصبح مطلباً جوهرياً، وأن المشروع الذي بشرت به تلك الدول بالانتقال من حالات النظم التابعة والفاسدة إلى الديمقراطية مجرد بند في الوصايا العشر، وأن الفشل في فرض هذه الخطط تلاشى لصالح جماعات إرهابية تريد عبور الحدود الدولية في بناء نظام «انكشاري» لا يدين بالولاء إلا للخليفة، وأن المد البشري والمادي ودخول دول معترك هذه الجماعات ومحاولة توجيهها لأغراضها، قد تنقلب لمصلحة غيرها، وأن تعاون تلك التنظيمات هدفه تقوية ذاتها بالعمل مع أي عدو يخدم استراتيجياتها ثم الانقلاب عليه كما جرى مع القاعدة في العداء لأمريكا وضربها حتى في الداخل؟ هذا التداخل في التطورات السريعة، هل يعيد القوى الكبرى لاستراتيجيات الخمسينيات إلى السبعينيات أي استعادة دولة الجيش بإعادة الانقلابات في تركيا وإيران والدول العربية للقبول بحقيقة أن نظاماً عسكرياً دكتاتورياً يؤمن مصالحهم هو أكثر من حلم الديمقراطية التي لا تصلح للمنطقة؟ الأيام ستكشف عن المستور لأننا الطبخة الجاهزة للمفاجآت وما يدور خلفها، فالعربي خُلق ليكون نقيض نفسه ومدمرها.