تناولت في المقالة الماضية جدل الألفة والغرابة في نصوص شعرية وألمحت إلى أن ذلك الجدل يمتد إلى أنحاء كثيرة من النشاط الإبداعي على اختلاف ألوانه وميادينه. وأعود هنا إلى الجدل نفسه لأشير إلى أننا كلما توسعنا في استقراء ميادين إبداعية وفكرية أخرى وجدنا السؤال نفسه أو المسألة نفسها تلح بوصفها مدار الرؤية وفيصل الإنجاز. لكن قبل المضي في طرح السؤال على تلك الميادين الأخرى، ألفت الانتباه إلى أن الموضوع كان مما أوحى به كتاب للناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو عنوانه "الأدب والغرابة" نشر في ثمانينات القرن الماضي. ومع أن ما يتناوله كيليطو في كتابه مختلف إلى حد واضح عما أطرحه هنا، فإن الصلة واضحة أيضاً في أنه يعنى بالغرابة من حيث هي من أسس العملية الإبداعية وتمظهرات النص الأدبي. لكن كتاب كيليطو ليس مركزاً على هذه السمة أو الخاصية للإبداع، وإنما يتناولها في أمثلة متفرقة عبر المقالات التي يضمها الكتاب والتي تخرج أحياناً عن موضوع الغرابة. كما أن اهتمام الناقد المغربي منصب، كما هي عادته ومجال اهتمامه البحثي والنقدي، على الأدب العربي الوسيط، أدب المقامات وألف ليلة وليلة – ما يعرف ظلماً بأدب عصر الانحطاط. فيما يتعلق بتناولي لموضوعه الغرابة هنا، يهمني أن أبرز جوانب تتبدى فيها الغرابة في الثقافة والفكر بعامة لكنها مما يصعب تناوله بتوسع في مقالات قصيرة هنا، لذا أكتفي بالوقفات القصيرة أو الإلماح إليها آملاً أن يجد القارئ فيها ما يغري بالتتبع ومزيد التحليل. لقد أدهشني أن تطالعني الغرابة في غير موضع من تلك التي كنت أطالعها حتى شككت أنني بسبب ثبات الفكرة في ذهني بدأت أقرأ بين السطور أو أتوهم وجودها حيث لا توجد. لكن العودة إلى النصوص أقنعني أن ثمة اتفاقاً بين أكثر من باحث ومفكر على أهمية الغرابة في أكثر من منحى من مناحي النشاط الفكري والإبداعي. كما أن تلك الأهمية كثيراً ما تقترن بما أسميته هنا جدل الألفة والغرابة، تلك الصلة التي تنعقد في الأعمال والنصوص وتبدو وكأنها مكمن من مكامن الدهشة وموالد الجمال والدلالة. الفيلسوف الألماني هايدغر في مقدمة كتابه الرئيس والكبير "الوجود والزمن" يطرح الفيلسوف الألماني هايدغر مسألة الوجود بوصفها مسألة دخلت في إطار المألوف حتى فقدت دلالتها ونسيت تماماً. فتحت عنوانا جانبيا في مقدمة الكتاب هو "ضرورة إعادة طرح مسألة الوجود بوضوح" يقول هايدغر: "هذه المسألة نسيت تماماً"، بمعنى أنها بعد أن طرحت بعمق وجدية لدى أفلاطون وأرسطو تحولت إلى مسألة عادية وواضحة حتى لم يعد أحد يرى ضرورة للبحث فيها مرة أخرى: "بهذه الطريقة ما وجده الفلاسفة القدماء مؤرقاً باستمرار من حيث هو غامض وخفي أصبح واضحاً وبارزاً حتى أنه لو استمر أحد في طرحه فسيتهم بخطأ في المنهج". مسألة الوجود أصبحت مألوفة بحيث لا تحتاج إلى بحث من جديد. وهذه المألوفية أو الألفة هي ما انتدب الفيلسوف الألماني نفسه في أواخر الربع الأول من القرن الماضي للبحث فيه ليؤسس بذلك مساهمته الكبرى في ما بات يعرف بالفلسفة الوجودية. كانت محاولة لاستعادة الغرابة لمسألة غشتها الألفة حتى محتها أو كادت. فالغرابة هنا هي تجديد الظاهرة وبعث السؤال بحيث يكتسي دهشة الجدة وطرافة الحضور. هذا مع أن أي محاولة لقراءة كتاب هايدغر الشديد الصعوبة ستعني الدخول ليس في غرابة واحدة إنما في غابة من الغرابات الكثيرة المزالق، المملوءة باحتمالات لاتكاد تنتهي من التيه. أسهل متناولاً من كتاب "الوجود والزمن" هي المحاضرات الشهيرة التي ألقاها هايدغر تحت عنوان "أصل العمل الفني" التي انطلقت منها آراء الفيلسوف حول مصدر الإبداع وطبيعته. وفي هذا السياق اشتهرت تلك المحاضرات لدى دارسي علم الجمال والنقد الأدبي لاسيا بعض الآراء حول طبيعة الفن التي منها قوله إن النحات أو المثال يستعمل الحجر ولكنه لا يستنفده، وأن الرسام يستخدم اللون ولكنه لا يستنفده أيضاً، وكذلك يفعل الشاعر في استعماله للكلمة فهو لا يستنفدها أو لا يستهلكها. ويقصد بهذا كله أن الفنان حين يعمل على إنجاز عمله الفني فإنه لا يتعامل مع مواده، سواء كانت أحجاراً أو ألواناً أو كلمات، بطريقة نفعية أو عملية لا ترى فيها سوى مادة للاستعمال تستنفدها بعدم السماح لكينونة تلك المواد أو خصوصيتها أن تظهر. الحجر واللون والكلمة تبقى محتفظة بسماتها، تحضر معلنة عن نفسها مؤكدة شخصيتها واستقلالها، نتيجة لعدم استنفادها أو استهلاكها. وهذا يعيدنا بالتفافة إلى مسألة الغرابة التي تعني مقاومة الألفة التي بدورها تقتل خصوصية الأشياء، الغرابة بمعنى الاختلاف أو التميز. الأحمر في اللوحة ليس كالطلاء الأحمر على حائط أو على سيارة يتوارى لكي يبرز الحائط أو تبرز السيارة. الأحمر يظل محتفظاً بخصوصيته أو بغرابة وجوده أو اختلافه، متأبياً على نزعة الاستهلاك التي تدجنه ليسقط في ألفة الحاجة ونسيان الاستعمال. اللون أو الحجر أو الكلمة ليس مجرد ديكور أو زخرفة يحضر ثانوياً، وإنما هو في العمل الفني أساسي، مهم بحد ذاته. أحمد عبدالمعطي حجازي يثير السلوفيني جيجيك، الذي عرضت لبعض أفكاره في مقالات سابقة، مسألة الغرابة هذه عند هايدغر وفي الفلسفة عموماً مشيراً إليها تحت اسم "الأجنبية"، أي حالة كون الشيء أجنبياً وباعثاً من ثم على الاغتراب والقلق. ففي الفلسفة ينبعث شعور بالاغتراب عن المكان، بأن المكان المألوف صار أجنبياً إلى حد ما. تقلق الفلسفة ذلك الانتماء المطمئن، مشيعة فيه بلبلة التفكير وأسئلة التأمل. "لطالما تطلبت الفلسفة حداً أدنى من انكسار المجتمع العضوي. إننا منذ سقراط لا نتوقف عن ملاقاة هذه الآخرية، هذه الثقوب ..." ثم يضرب مثلاً بفيلسوف آخر هو ديكارت الذي قال إنه حين سافر عن بلاده اكتشف كم هي غريبة عنه وكأن السفر يكشف جوانب غريبة في وطن تغمره الألفة طالما أقمنا فيه. ويؤكد ألان باديو مسألة الأجنبية نفسها في الحوار بينه وبين جيجيك الذي عرضت بعض جوانبه من قبل حين يقول: "أعتقد أن من الضروري أن نفهم هذا: الالتزام الفلسفي الحقيقي في المواقف يصنع الأجنبية. هو أجنبي بشكل عام". باديو هنا يميز بين الفيلسوف والمعلق السياسي. الأخير غير معني بالمفارقة التي تهم الفيلسوف والتي يعبُر من خلالها إلى رؤية ما هو غريب أو أجنبي في الواقع المحيط. المعلق يرى الأشياء لكنه حين يحللها لا يبحث عن مفارقات أو غرابة كتلك التي يستظهرها الفيلسوف. فالأخير، كالشاعر أو الفنان عموماً، مهموم بالألفة التي تهدد العالم باستمرار لتحول دون ما أسماه صلاح عبدالصبور بالبكارة فيه، ولتصبغه بعد كل استعادة لتلك البكارة بما أسماه شاعر آخر، هو أحمد عبدالمعطي حجازي، السواد الأليف. في قصيدة من مجموعته "كائنات مملكة الليل" يرسم الشاعر المصري حجازي دهشته عند رؤية الثلج – ربما لأول مرة وفي باريس كما يبدو – فالمجموعة تسجل تجربة الشاعر عند انتقاله إلى هناك في منفى اختياري أثناء السبعينيات: البياض مفاجأة، حين عريت نافذتي شدني من منامي النديف الذي كان يهطل متئداً. مانحاً كل شيء نصاعته ومداه الشفيف شدني. ثم تمضي القصيدة القصيرة وئيدة تصف مشاهد مبهجة للثلج والطيور والتماثيل حتى تصل إلى مفاجأة النهاية: ثم أشرقت الشمس من فوقنا فسقطنا معاً وانحللنا معاً في رتابة هذا السواد الأليف! إشراقة الشمس التي ينتظرها الأوروبيون تزعج ابن الشرق الذي ألف الشمس ويبحث عن الغريب المختلف، عن دهشة البياض في الثلج، والشمس بالنسبة له مؤذنة بغروب بهجة الغرابة وسطوع خيبة الألفة.