في شهر أكتوبر من العام 1994، قام شاب ليس لديه تأهيل دراسي أو فقهي ولا يحمل غير شهادة الكفاءة المتوسطة بمحاولة قتل الروائي المبدع، وأحد رواد التنوير في العالم العربي، والحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1988، الأستاذ نجيب محفوظ، وقد اعترف الشاب بأنه حاول اغتيال محفوظ لأنه ينفذ "أوامر أمير الجماعة والتي صدرت بناء على فتاوى الشيخ التكفيري عمرعبدالرحمن". وقال: "كان الهدف هو ذبح نجيب محفوظ داخل منزله بالسكين، أما المسدس الذي كنت أحمله فكان لتهديد أفراد أسرته حتى لا يطلبوا النجدة. لكن الله لم ييسر الأمر لذلك قررت ذبحه في اليوم التالي وقد قمت بتنفيذ العملية وهربت إلى زملائي في "حي" عين شمس وأخبرتهم أنني غرست السكين في رقبة نجيب محفوظ فأخذوني بالأحضان وأخذوا يقولون لي "مبروك". وفي المحكمة، سأل القاضي هذا الشاب، لماذا طعنت نجيب محفوظ؟ أجاب، لأنه كافر. فرد القاضي سائلاً: وكيف عرفت؟ قال: من رواية "أولاد حارتنا". فسأل القاضي: هل قرأت الرواية؟ قال: لا "!!". هذا الشاب شرب الجهل، والعدوانية، وعاش في قاع التخلف والظلامية، وتكونت عنده روح شريرة عدائية، كارهة، رافضة للناس، ومعاني الحياة، وكل جمال في الكون، بفضل من اعتبرهم شيوخاً، يستغلون الصغار للعبث بعقولهم، والقيام بعملية تخريب منظّم لتوجهاتهم، وطموحاتهم، وأهدافهم في المسار الحياتي، وتدمير كل محاولات جادة في سعي الشاب لتطوير ذاته وأدواته المعرفية والثقافية، واكتساب مضامين الحداثة، والتنوير، والخلق، والإبداع الإنساني، ليكون عضواً فاعلاً ومنتجاً في فضاء المجتمع، مساهماً في توطين منجز العصر كأداة ضرورية لقيام مؤسسات المجتمع على وجه صحيح وسليم وعلمي ومنهجي، سواء كانت مؤسسات اقتصادية، أو تربوية، أو تعليمية، أو ثقافية، أو حياتية.. وإصرار هؤلاء من المزايدين باسم الدين، المتخفّين تحت ستار الإسلام على الوصول إلى غاياتهم السياسية عبر هذا الشاب وأمثاله الذين لا يتكئون على ثقافة دينية واعية ومتمكنة، ومتأصلة في فهم النصوص وسياقاتها الزمنية والمكانية، ومن السهل قولبتهم حسب ما يريده ذلك الواعظ المتدثّر تحت عباءة الدين، الملتحف بمظاهر الفضيلة والورع، وعينه ترنو إلى البعيد تفيض بالشرر، والحقد، والانتهازية، وكره الناس والحياة، وكل جمال في هذا الكون الواسع الذي صنعه الله - عز وجل - من أجل الإنسان والكائنات نعمة ورحمة وهناء وسعادة، ليسعوا في مناكبها يبتغون فضلاً من الله. هذا الشاب الذي غفر حماقته العقل المتسامح المحب نجيب محفوظ - رحمه الله - هو نموذج حي، وشاهد حقيقي على كل الشباب الذين سلموا أنفسهم لشيوخ التكفير، وأساطين الكراهية والحقد، والذين ما لبثوا يعيشون في كهوف التاريخ، وزوايا الظلام، مستميتين في سربلة وإعاقة تطور المجتمع، وتماهيه مع الحداثة، والتحول، والتغيير، وسعيه نحو صناعة واقع حياتي ونهضوي مبهر يضعه في قمم الفعل الأممي بجدارة واستحقاق، ومن ضمن هذا النموذج شباب ما أطلق عليه "شباب الصحوة" عندنا، ممن أغلقوا عقولهم وانقادوا خلف تحريض وعفن أشخاص نعرف أهدافهم ونواياهم وغاياتهم التي لا تخفي السوء بالوطن، وإرثه السياسي، والقومي، ومنجزه من التنمية البشرية والمادية، ومنها صياغة عقل الأجيال بالابتعاث. نستدعي الحوادث، ونتذكر الممارسات البشعة ونحن نعيش الحدث الثقافي "معرض الكتاب"، ونتوجس من "المتشدّدين" و"المتشدّدات" وارتكاب حماقات الجهل والفوضى.