عندما بدأ التعليم النظامي بفتح المدارس لتعليم الناشئة من البنين، ثم بعد ذلك فتحت المدارس للبنات . رأت وزارة المعارف (التربية والتعليم) بعد ذلك فتح مدارس لمحو الأمية للكبار في جميع مناطق المملكة وذلك بهدف محاربة الأمية من كلا الجنسين وكانت الدراسة طبعاً في المساء للرجال وللنساء بعد العصر . وكان أغلب الذين يدرسون في محو الأمية من الكبار موظفين في الصباح فكانت أعمارهم ليست صغيرة بالنسبة للمرحلة الابتدائية وبعضهم يلاقي صعوبة شديدة في التعلم وقد يفر ويترك الدراسة بدون رجعة . ومع هذه الصعوبات التي يواجهها الذين تعلموا في الكبر إلا أن البعض منهم قد كسر حاجز السن وتعلم وواصل الدراسة ونال الشهادة التي يطمح إليها. وأبعد عن نفسه الجهل وأصبح جامعياً. وواصل حتى منح الماجستير والدكتوراه لأنه يحمل العزيمة والإرادة والتصميم .. وقبل كل شيء صدق التوكل على الله، ولعل أشهر مثال على هذا النموذج في المواصلة الحثيثة والإصرار المتواصل الإمام الشهير( الكسائي)، رحمه الله تعالى, الذي لم يتعلم إلا عندما بلغ الأربعين عاماً ولم تكن عقبة السن صادة له عن طلب العلم . ولم يكتف بتعلم القراءة والكتابة فقط بل جال في البادية ليأخذ اللغة من العرب الذين لم تتأثر لغتهم بالعجمة , ولم يتفش اللحن فيهم , فأقبل بشغف ورغبة وعشق في طلب العلم والمعرفة. ولازم علماء العراق وتلقى عنهم النحو واللغة والإعراب والقراءات؛ فأصبح إمام أهل الكوفة في النحو وعلماً من أعلام القراءات السبع التي يُقرأ بها في العالم الإسلامي. والعلامة (العز بن عبدالسلام) رحمه الله لم يطلب العلم إلا في سن متأخرة جداً ففاق الكثير من أبناء عصره ومصره الذين طلبوا العلم وهم في الصغر وأصبحوا يرجعون إليه ويعتدون برأيه وفتاويه . ويورد العالم الموسوعي (عبدالسلام هارون ) رحمه الله في كتابه كناشة النوادر نادرة عن تعليم الكبار .. في كلام ما معناه : أن أحد الملوك عاقب شخصاً كبرت سنه بأن يُلزم التعليم مع الأطفال في الكتاتيب .. ولعل هذا الخبر أول نص يرد إلينا في محو الأمية . وكانت لبعض من انضم إلى مدارس محو الأمية في القديم طرائف ومواقف أحياناً مضحكة. وقد كان بعضهم شاعراً ينظم القصائد ولابد أنه لا تمر عليه هذه المناسبة إلا أن يبوح بما في صدره من خواطر نحو هذا الجو الذي يدخل فيه لأول مرة ولا ننسى الفنان سعد التمامي عندما وصف بعض النساء اللائي دخلن مدارس محو الأمية وكانت كلماته مشهورة في ذاك الزمن المليح: شفت الخالة واعجبتني في مشيتها تحمل معها دفاترها وحقيبتها شجعتها وعلى الأبلة عرفتها وعلمتها بالسبورة وطبشورتها علموها كيف تربي بنيتها وعلموها كيف تخيط فنيلتها عن التسيورة للجارة حذرتها أكل الفصص مع جارتها ما نفعتها والحكومة للمناهج وزعتها والمدارس في الدراسة هيئتها والأمية كل العالم حاربتها كل يسعى في واجب محو الأمية ولقد كانت أشعار الشاعر الفكاهي والاجتماعي عبد المحسن الصالح ،رحمة الله ، رافداً في محو الأمية ونبذ الجهل ولعله كان أول شاعر يسخّر بعض أشعاره في هذا الميدان النافع وبالأخص أنه مارس التعليم في الانطلاقات الأولى بالمملكة ومن رجال التربية والتعليم القدماء وانضم مع أخيه رجل التعليم ومعلم الحرف والكلمة الأستاذ صالح الصالح ،رحمه الله، فكان عبد المحسن منبراً شعرياً لمحو الأمية في ذاك الزمن الذي كانت فيه الأمية هي الغالبة والسائدة في المجتمع . وهو بذلك يرغب الناس في التعلم سواء كانوا صغاراً أم كباراً .. منها على سبيل المثال قصيدته بعنوان : أنا تلميذ بالمكتب .. يقول ابن صالح ، رحمه الله تعالى: مدير المدرسة يؤدي الامتحان مع تلاميذه والعسكري يؤدى التحية لمعلمه دفتر التعليم قلبي ما شقى به شقوتي في صاحبي ضافي الذوايب شفت الخالة وأعجبتني في مشيتها.. أول منولوج لمحو أمية المرأة أنا تلميذ بالمكتب ذالي خمس إميّه حوليه جمعت إعراب وحساب بالدفاتر كتب إيديه ودروس ما دري وش اسمه لكن من عرضه بحيه وأربع قصيد لعنتر الصينية والطينية وكتاب به لغوة لندن جا من جدتنا عارية ودجاجتنا قميرية تبيض البيض بطاقيه مع هذا كله عجزت أنجح ولا هقيت إنه لي نيه وقصيدته هذه في شأن الشخص الكسلان من الكبار الذي استصعب المواد الدراسية وهرب من المدرسة وتقاعس . وأما أبياته الأخرى فهي عن محاربة الأمية وهي على لسان صحيفة حائطية قيلت عام 1378ه بالمعهد العلمي بعنيزة يوم أن كان الشيخ الفقيه المتبحر محمد العثيمين مدرساً فيه ،رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته يقول : كناسخي الصحيفة عصبة من رجالها أهل التقدم والذكا والجاه تقول لهم لا فض فاها ترى الفخر للي رام الصعيب قواه تعاونوا خلو نبي نطرد الجهل برجال علم يمهنون ثواه الى آخر قصيدته ،رحمة الله، وعفا عنه . وعلى الإصرار على التعليم والتعلم في الكبر ما حدثني الأستاذ الجغرافي المؤرخ الراوية سعد بن جنيدل رحمه الله أنه اجتاز امتحان الشهادة الابتدائية مع التلاميذ الذين كانوا أصغر منه سناً وكان هو مدير المدرسة آنذاك ببلدة الشعراء فهو يؤدي الامتحان مع تلاميذه لأنه كان يدرس وهو مدير المدرسة ولم يحمل الشهادة الابتدائية لأنه كان قد تعلم القراءة والكتابة في الكتاتيب، وكان التلاميذ يتعجبون منه.. المدير يمتحن معنا يا للعجب !! ثم واصل دراساته وأكمل حتى نال شهادة كلية الآداب من جامعة الملك سعود وهو كبير السن . ولأحد الشعراء المعاصرين قصيدة قالها يوضح فيها حالته الوظيفية وأن الترقية لابد لها من شهادة وإكمال للدراسة وكان يحمل الكفاءة المتوسطة وهذا الشاعر اسمه سعود ..واضطر لدخول مدرسة محو الأمية للحصول على الشهادة الثانوية: قالو لي الترقية لازم ثانوية وأنا مغير الكفاءة ويدوب جايبها راحت علي يوم كان الوضع بيديه يوم الجهل مالك نفسي وقاضيها وقررت أواصل عشان أوضاعي السيئة وظيفتي ماّ يكفيني راتبها عودت للمدرسة في محو لأمية مجبور فيها ولوما ني راغبها سجلت فيها بفزعات وجاهية اشقيت نفسي ولا أدري وش مكاسبها وواصلت شهر بمقاعدها للأمامية دروس اشاركها بها ودروس اجنبها وجانا مدرس وشكله ناوي نية عيونه تروع ودايم مقلبها ثم ذكر معاناته مع مادة اللغة العربية وصعوبتها والتخاصم مع أستاذ اللغة العربية وشكوى الأستاذ على المدير بسبب هذا التلميذ الذي لم يتجاوب معه وحيث إن المدرس كتب جملة على السبورة وقال للشاعر قم وأعرب الجملة فقام وأدى التحية العسكرية للمدرس فغضب المدرس معتقداً ان هذا استهتار به وسخرية :- يقول الشاعر وقمزت من روعتي واعطيته تحية أحسبه آمر سريتنا يدربها وازداد حدة وقال انتبه ليه الجملة اللي بالسبورة اعربها وجلست مرتاح لاذيه ولاذيه ضيعت هرج السعة حزت مكاربها وراح لمديره وقاله بتشمت فيه مير اطرده مدرستنا لا يقربها إلى آخر قصيدته. ثم يأتي الشاعر المعروف الكويتي مفرح الضمني رحمه الله منوهاً بظرفه حينما دخل عالم التعليم في سن متأخرة وحيث إن الشاعر قد تذكر أيام الصبا والهوى في أثناء الدرس وأمام المعلم وأن هذا التعليم ليس مفيداً الآن بعدما كبرت سنه يقول رحمه الله وعفا عنه. يا لمعلم دخت من كتر الكتابة حضرتي للدرس من كبر المصايب دفتر التعليم قلبي ما شقى به شقوتي في صاحبي ضافي الذوايب يا لمعلم لا تطالبني طلابه شل قراطيسك وجوز من الطلايب لا تلوم اللي تعذب في شبابه عذبه طفل مع البدوان غايب لو تشوفه يا لمعلم في ثيابه كان تصبح من جميع الدرس تايب وكان الشاعر فهاد الجافور ينظر في المنظرة كعادته يومياً وكان لتوه قد انضم مع كبار السن في تعليم محو الأمية فكأنه لام نفسه في هذه السن أن أن يتعلم وقد بلغت سنة خمسا وخمسين سنة وقد اشتعل الشيب في لحيته وشاربه وها هي أبياته تعبر عما في نفسه : البارحة شفت وجهي بالكبت وانكرت روحي و ين أتعلم وعمري طايف خمسة وخمسين المنظرة شفت فيها الشيب في وجهي يلوح يوحي الدرس يبغي شباب فارغين ومتعافيين وهكذا كان بعض كبار السن الذين تعلموا وهم في محو الأمية نفثت صدورهم بهذه الأبيات تترجم مافي أحاسيسهم نحو عالم الأمية. سعد بن جنيدل سعد التمامي مفرح الضمني