يعود لآل الصلح، ومنهم منح الصلح، فضل كبير في بناء لبنان الحديث. فقد دعوا منذ الثلاثينات من القرن الماضي بشخص رياض الصلح، أول رئيس حكومة لبنانية في عهد الاستقلال، إلى «ميثاق وطني» يضم مسلميه ومسيحييه، وإلى أن يكون لبنان بلداً مستقلاً «وذا وجه عربي» على الخصوص. وقد اقترنت هذه الصيغة باسم رياض وابن عمه تقي الدين، كما اقترنت لاحقاً باسم منح الصلح الذي ظل إلى أيامه الأخيرة يدافع عن هذه الصيغة الميثاقية ويرى أنه لا بديل منها في بلد يضم ثماني عشرة طائفة دينية. وكما كان ابن هذه الأسرة التي أجرت مثل هذه التوفيقية بين اللبنانية والعروبة، كان منح الصلح واحداً من المفكرين العروبيين الكبار الذين عُرفوا بتوجههم القومي والعمل لبناء وحدة عربية تكون مدخلاً لتحقيق المشروع النهضوي المنشود. وفي كل ما كتب بدا معاصراً وعقلانياً وداعياً إلى هوية جامعة تشمل كل جوانب الحياة العربية. فإذا لم تكن العروبة جامعة ونهضوية، فإنها لن تكون هوية قادرة على تحصين مجتمعها، والإشعاع بين أبنائها، بل لن تكون هوية قادرة على حمل رسالة الأمة إلى العالم. لقد كانت العروبة عنده هي «الميثاقية» على مستوى الأمة، تماماً كما «الميثاقية» هي العروبة داخل لبنان وكل قطر عربي. صدر لمنح الصلح خلال نصف القرن الماضي عدة كتب من أبرزها: «الإسلام وحركة التحرر العربي»، وقد صدرت منه طبعة حديثة قبل أيام، و«مصر والعروبة»، «والانعزالية الجديدة في لبنان». وكان بعض أصدقائه يعملون في الأشهر القليلة الماضية على جمع مختارات من نتاجه الفكري المنشور أو غير المنشور لاصداره تباعاً في كتب. ولعل ما كتبه بقلم غيره أكثر بكثير مما كتب بقلم منح الصلح. والكثير مما كتبه يؤلف وثائق ومواقف وإضافات ذات شأن للفكر القومي العربي على الخصوص الذي وهبه منح الصلح عمره. لم يتزوج منح الصلح. قيل إنه تزوّج «القضية»، وقد قصدوا بها قضية العرب المتمثلة في بناء وحدتهم ونهضتهم المرجوة. ويبدو أنه ورث مثل هذا الاهتمام من جدّه منح الصلح الذي حمل اسمه والذي التقى في نهاية القرن التاسع عشر في دمشق مع الأمير عبدالقادر الجزائري المنفي إلى سورية في مسعى مشترك، خاب بالطبع، يعمل لوحدة المشرق العربي. ولأنه لم يتزوج، فقد كان لديه وقت كافٍ للاهتمام بتربية الناشئة والأجيال الجديدة وتوجيهها. وقد ذكر أحد المفكرين التونسيين مرة أن أهم ما لاحظه في منح الصلح هو انصرافه إلى مجالسة الجيل الجديد وطول أناته في الرد على أسئلتهم، وفي رعايتهم، كما لو أنه معلّم يدرّس طلبة. والواقع أنه كان أكثر من «معلّم». كان «جامعة» تمور بالموهبة والكفاءة والنظرة العلمية والعقلانية. وإذا كان أحمد لطفي السيد حظي من المصريين بلقب «أستاذ الجيل»، فإن منح الصلح كان أستاذاً لعدة أجيال. وكان لهذا الأستاذ تاريخ في أكثر من قطر عربي، وطالما دعا هذا الأستاذ إلى تاريخ عربي واحد. وبموته ينقضي وجه لامع من وجوه العروبة والفكر والاستنارة.