موضوع هذا البحث دور الأرشيف والذاكرة في الإنتاج الثقافي، وصناعة صورة الفنان، واستحضر نموذج الفنان الكبير عبداللطيف الكويتي تمهيداً لتحليل نموذج كبير آخر هو طلال مداح. هذا جزؤها الثالث. إذا كان عبد اللطيف الكويتي كرّس من طريقة أدائه بوصفه مغنياً متقناً، وصاحب ذوق في اختيار الألحان والنصوص الشعرية لمجمل الفنون الأدائية التي شكلت مسيرته وخزينته ولهجته الغنائية فإن طلال مداح بوصفه مغنياً محنكاً، وصاحب ذوق في ألحانه ونصوصه الشعرية بالإضافة إلى أعمال ملحن أسهم في رفد تجربته هو سراج عمر يشكل لهجة غنائية تصفت منها عناصر بائدة واستنبتت عناصر بديلة أسست لما يمكن تسميته "الذاكرة الطلالية" التي فرضت أسلوبها وطريقتها إما في طرق الأداء المختلفة وإما في صياغات الأشكال والألوان اللحنية. وسأشير إلى مقولتين نقديتين تاريخيتين تشكلان عنصراً تكوينياً بين "التنسيب الحضاري" عند كل من عبد اللطيف الكويتي وطلال مداح ولعبة "الإسقاط الثقافي" تمكنا من وعيها وإدماجها وتجاوزها محاكاة لعصرهما وهو ما شكل من الذاكرة العبد اللطيفية –نسبة إلى عبد اللطيف الكويتي- ولاحقاً الذاكرة الطلالية. المقولة الأولى تلقيب الكاتب سيد هاشم الرفاعي للمغني الكبير عبد اللطيف الكويتي "المغني الأندلسي" (سيف مرزوق الشملان، مجلة عامل الفن، العدد222، 1976). وهو يضم إلى قائمة الألقاب المكتسبة مثل: عبد اللطيف الكويتي نسبة جغرافية من صاحب شركة أوديون (اسمه: عبداللطيف العبيد)، و"مطرب الملوك والأمراء" نسبة لطبقة مستمعيه، و"مطرب الكويت المحبوب" نسبة إلى فرادة شخصيته وأدائه الغنائي، وكذلك "المطرب الطائر" نتيجة سفراته وترحاله بين آسيا وأوروبا وأفريقيا (الغريب، 2002، ص: 13). ويمكن العودة بتبرير هذا اللقب في صورته الظاهرة إلى أدائه واحداً من الموشحات "زارني المحبوب في الليل الغلس" غير أن الذهاب إلى باطن ذلك هو محاولة تعليل عبداللطيف نفسه لذلك الخزين الغنائي من الألحان والقصائد المنسوبة إلى شعراء من القرون الوسيطة والمتأخرة*. *يمكن مطالعة كتاب شعراء الصوت والأغنية القديمة، خالد سالم محمد، 2002). **مقاطع فصل من كتاب جديد بعنوان "زرياب الآخر" يصدر قريباً عن منشورات أحمد الواصل ومنشورات ضفاف.