لأكثر من أربعين عاما تشكل تجربة طلال مداح الغنائية ذاكرة ثقافية لمجتمع الجزيرة العربية في المنتصف الثاني من القرن العشرين. وما يعلل عنوان هذه المقدمة أكثر من مقولة تؤسس لهذه "الذاكرة الطلالية" بوصفها حالة ثقافية وشاهدا حضاريا. فالشعوب لا تخلد إلا أهل آدابها وفنونها. إذا ارتكزنا على مقولتين أساسيتين -سأذكرهما عرضاً وتحليلاً -في صياغة هذه الذاكرة الصائرة بديلاً عن ذاكرة "الولع بالأسلاف" أو عبادتهم حسب الفهم الاستعماري وإنما تندرج ضمن سياق عملية التنسيب والإسقاط كاستراتيجة "استملاك المفقود" في الخزينة الحضارية لإتمام عملية الحرق والاستنبات في عناصر الفنون والآداب لدائرية بناء الثقافة ورفع قواعد الهوية والذاكرة. فقد سعى المغني الكبير عبداللطيف الكويتي (1904-1975) إلى حمل تراث زاخر من الأعمال الحضرية نتيجة لمكونات عدة، من ثقافة البحر والريف والصحراء في وسط وشمال وشرق الجزيرة العربية، تتجلى في فن الصوت بأنواعه: الشامي والعربي والخيالي وفن الخماري وفن اللعبوني والسامري والهجيني بالإضافة إلى نماذج من قالب "الأغنية" الذي ابتكر في القرن العشرين عبر ألحان صالح الكويتي دون إغفال تنويعة من التراث العربي من الموشحات والقصائد (اندرجت ضمن قالب فن الصوت) والبستات. فهو شكل بصوته وأدائه وشخصيته حالة فريدة، تجاوزت المفهوم الضيق للرواية الغنائية بحسب الموقف الأكاديمي عند يوسف دوخي، واستطاع بيسر أن ينقل طريقة مدرسة القرن التاسع عشر، وربما هي مدرسة ذات عمق لأكثر من قرنين، في مقومات أداء تلك الفنون بأنماطها وأشكالها وألوانها، ومنحها صيغة مختلفة تحمل شخصيته وملامحها الأدائية والذوقية. أضاف إلى تلك الأعمال أسلوبه الفريد في الأداء المتقن لأصولها وقواعدها، والارتجالي تلويناً من داخل تكوينها وعناصرها، والتزم بذوق وخبرة كبيرين في التنقل بين الألحان وتبديل نصوصها وهي طريقة من طرق "تمديد صلاحية" الألحان بكلمات جديدة. * مقاطع فصل من كتاب جديد بعنوان "زرياب الآخر" يصدر قريباً عن منشورات أحمد الواصل ومنشورات ضفاف.