"عرفة".. ليس يوما ككل الأيام، روحانيته لا تعاش في يوم وحسب، إنّه بداية مولد جديد، يحمل إلينا الحب والمغفرة والتوبة والدموع والطهر، ويحمل إلينا العيد متوجاً بوحي إيماني بهي.. قبل غروب شمس هذا اليوم نرى أعظم مشهد، مشهد وصل إلى ذروة التذلل والتقرب إلى الله تعالى، لا لغة ترتفع إلاّ لغة الدعاء، حيث تحول إلى أشبه بسحب تغطي سماء عرفات وتعانقها في مشهد أخاذ ومهيب.. وجوه يشع منها نور الإيمان، وأيدٍ ترتعش من فرط الخضوع والرجاء، وأعين تفيض بالدموع في يوم الدعاء.. صور الحجاج وهم يستغلون زوايا الخيام وظلال الأشجار والجسور، وفيافي المرافق الحكومية، رغبةً في دعاء خاص يقطع نياط القلوب، وهم في مناجاة روح تواقة لحزم حقائب عباداتها، وضبط بوصلة الزمان والمكان نحو أطهر البقاع، واستحضر أرواحهم العطشى بين شعاب عبادة عظيمة. نرى الحجاج وقد أقبلوا على الله بدموعهم راجين المغفرة والتوبة، تلك الدموع التي ما نزلت من أعين أصحابها إلاّ وفيها صدق المحبين وشوق العاشقين، تلك الدموع الهاطلة الغالية بغلاء مضمونها، والمرتجفة بارتجاف صدر صاحبها، الصادقة بصدقه أوبة مالكها، ليست كباقي الدموع، بل هي الدموع الزكية التي لا يخالطها رياء ولا غش ولا جمود، خبأت تحت طيات الأجفان سنيناً خالدةً، حتى هطلت محملةً برجاء الخائفين، وسايرتها حرقة الذنب، وألم معصية حُفظت بين الضلوع، وندم التجاوز، هطلت بكل جود وعطاء؛ لأنّها كريمة حينما أدركت أنّها لله، ومن الله، وفي الله -جلّ وعلا-.. أجْلَت كل دخن في القلوب، وأزالت كل صدأٍ في النفوس، وطهّرت كل شائبة في الأرواح؛ لأنّها الدموع الطاهرة، دموع أحبها الله رب العالمين دموع التائبين العائدين لرحمة الله والطامعة في مغفرة في هذا اليوم، الذي يخرج منه الحاج كيوم ولدته أمه. مشهد التوبة .. هذا المشهد هو مشهد التوبة والأوبة والإنابة لله رب العالمين، إنّه وقفة مع الله سبحانه وتعالى في أراضيه الطاهرة المقدسة، وبين يديه، تتوحد الأهداف والغايات رغم تباين الألوان واختلاف اللغات، إنّه من المشاهد التي تحيي القلوب الميتة، وتوقظ العقول الغافلة، وتحيي الأنفس التي كثر عليها الذنوب، وانشغلت بالدنيا، وضربت عليها الغفلة.. مشهد تمتد سرمدية طُهره لينابيع الروح، وتمطر من المولى -عزّ وجل- على عباده سحائب رضا وغفران، وهم عند حسن ثقة بخالق الأكوان، متجردين من متاع الدنيا وزخرفها، مجتنبين سفاسف الأمور، مستغلين أوقاتهم بإشعال فتيل الطاعات، واغتنام الثواني قبل السويعات.. هذا المشهد يجتمع فيه الحجاج القادمون من كل حدب وصوب على صعيد واحد، في مكان واحد، وزمان واحد، وبلباس واحد، مؤمنين أنّه لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلاّ بالتقوى، اشرأبت أعناقهم وتوحدت قلوبهم في مشهد عظيم، ملبين لله تعالى، وارتفعت أياديهم بالتضرع إلى الله طلباً للمغفرة والرحمة. خفقات الرجاء يجتمعون هذا اليوم على صعيد عرفات شعثاً غبراً مهللين ومكبرين، يلبون ويدعون، يبكون ويستغفرون، يلهجون بخواطرهم قبل ألسنتهم، انطلقوا بقلوبهم قبل أجسادهم، تركوا وراءهم الأهل، وخلفوا الأولاد، وأنفقوا في طريقهم الأموال، وبذلوا الجهد، ولحقهم الإرهاق، وعاشوا يبغون هذه اللحظة، وينتظرون تلك الوقفة بين يدي الله على صعيد عرفات.. إنّه يوم عرفة الذي يتفضل الله -عزّ وجل- فيه على عباده بالمغفرة والصفح حتى إنّ الشيطان حينما يبصر رحمة الله على بني آدم في هذا اليوم يدعو على نفسه بالويل والثبور، يجتمع في هذا اليوم المبارك كتلة ذوي القلوب المؤمنة يلوحون في ثيابهم البيض كأنهم الملائكة، رافعي أصواتهم بالتلبية والدعاء، وقد تضاموا وتلاحقوا، حفاة الأقدام، حاسري الرؤوس، وباسطي أيديهم إلى السماء منقطعة أنفاسهم بخفقات الرجاء.. إنّه موقف تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. أمنية ورجاء في هذا اليوم قد لا يتذكر الحاج إلاّ نفسه، لا يريد العودة خائباً، يدعو الله ويبتهل إليه بدموع حارقة، ولسان يلهج بالتوبة والاستغفار، وأيدٍ ممتدة إلى السماء تطلب السماح والغفران، وقلب خاشع يترقب القبول والطهارة من الذنوب والآثام.. في هذا اليوم يقف الحجاج على صعيد واحد سواسية فقيرهم مع غنيهم، كبيرهم مع صغيرهم، نسائهم مع رجالهم، كلهم جاؤوا لمقصد واحد، وطلب واحد، ورجاء واحد؛ المغفرة والنجاة من النار، وقبول حجهم وتوبتهم الخالصة المخلوطة بدموعهم الصادقة، فكم من غيرهم كان يتمنى أن يقف وقفتهم وحال دون ذلك ظروفهم الصحية، أو المادية، أو بعد المكان وعدم تهيئة الزمان لهم، كم من شخص كان يتمنى أن عمره تقدم به ليحج ويغسل ذنوبه ويتوب توبة نصوحاً، ولكن حال دونه كبر سنه، كم من امرئ تمنى أن يستطيع أن يبلغ الرحاب الطاهرة -ولو كان حبواً- وأن يقف بين يدي الله كوقوف الحجاج يوم عرفة وحال بينه وبين ذلك مرضه، كم من شخص أحب أن يشعر بطعم التوبة على جبل النور، أطهر البقاع وأقرب ما يكون الحاج فيها لربه.. ومنعه شيطانه، وطول الأمل!. لغة واحدة كل هذه الأمنيات تحققت لمن وقف اليوم في عرفات، فلا نرى حاجاً إلاّ ممسكاً قرآنه، أو رافعاً يديه، أو ذاكراً ربه ومستغفراً لذنبه، ودامعةً عيناه، يشاركهم هذه المشاعر من يراهم من خلف الشاشات، ويستلذون بهذه الصور الإيمانية، ويلهجون بالذكر والدعاء وهم صائمون، متقربون بطاعتهم لله، يرجون غفرانه، وتدمع أعينهم من المشاهد التي تحرك مشاعرهم للقيا الله وأداء فريضة الحج، ويرددون مع الحجاج "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، التي تنطلق بصوت واحد وبلغة واحدة في نفس المكان والزمان من مختلف الجنسيات والأشكال والألوان، وجمعهم هدف واحد وفريضة واحدة، ومشاعر جياشة يختلط معها البكاء والنحيب، عند قرب الغروب ووداع عرفات، والموقف العظيم، آملين وراجين المغفرة والقبول. طفلة تحمل هدية من الأضحية إلى الجيران دعوات تسابق خيوط الغروب