من عجائب الأحداث وغرائب التحولات ما حفلت به الساحة اليمنية مؤخراً من هذه الدراما التي لا يكاد أن يستوعبها عقل ولا أن يتصورها خيال. في البدء ارتسم ذلك السؤال الذي لا يختلف كثيراً عن ذبابة الرمح المنطلق سريعاً صوب الخاصرة: كيف تسنى لمجموعة من الرعاع الرعويين أن يمتلكوا هذا القدر من القوة اللوجستية والعسكرية مما جعل الطرف الحكومي ومن لف لفه يذعن ويستكين بهذا القدر المزري؟ ثم تأتي بعد ذلك أعجوبة العجائب وغريبة الغرائب وهي انهيار القوة العسكرية الحكومية ممثلة في الجيش واستسلامها للرعاع، وتبعتها وزارة الداخلية وعديد من الوزارات الأخرى والمؤسسات، مما جعل الدولة برمتها وأرومتها حتى الآن قاب قوسين أو أدنى من السقوط والزوال، لتتحول البلد تبعاً لذلك إلى ساحة مستباحة مهدرة تتسيدها وتتحكم فيها المليشيات والعصابات وعشاق الفوضى والدمار! إن ما يخطر - أولاً - في بال القراءات والتحليلات أن هناك بالتوكيد صيغاً لا تخفى من الخيانات والتواطؤ، وأن هناك من يقف خلف هذه الدراما إعداداً وتخطيطاً وعملاً وتنفيذاً، وتشير مثل هذه التوقعات بقوة إلى الرئيس السابق علي صالح ومن معه من أتباع وأنصار، وإلى أنه هو الذي في البدء أثار الإشكاليات، وشجع على هذه التحولات وعلى تلك المواجهة، طمعاً في الحصول على إمكانية العودة إلى سدة الرئاسة ، ويساعد على مثل هذه التحليلات والتوقعات وربما التكهنات ما عرف من سيرة هذا الإنسان ومكونات شخصيته وفي مقدمة ذلك الدهاء والمراوغة وإجادة فن الإثارة وإشعال نار الفتنة بين الخصوم، وليس هناك أشد على الرئيس - أي رئيس - من أن يأتي شخص فيأخذ مكانه ويقبض على مفاتيح أمجاده التي يعتقد هو جازماً بأنها أمجاده! وقد قيل قديماً: (إذا وقعت كارثة دون مناخ وأسباب وغُمَّ على الحكيم معرفة منابتها ففتش عن المَوْتور.) وفي هذه الأيام، وفي عز ما يتوالد في اليمن المنكوب من الكوارث، يتحدثون كثيراً عن (الحكمة اليمنية)، غير أني - ورب البيت - تعبت حقاً وأنا أتَسَقَّطُ مكامن هذه الحكمة! .. فهل من الحكمة أن يموت الحوار والتفاهم بين الفرقاء ويستبدل به الضرب والطعن وإطلاق النار؟ وهل من الحكمة أن تموت المروءة والأخلاق وتستباح الحرمات؟ وهل من الحكمة أن يقضى على الأمن والأمان ويبث الرعب والخوف والهلع بين من لا حول لهم ولا قوة؟ وهل من الحكمة أن تسقط المؤسسات والدولة وأن تتحول البلد إلى سياق رجراج لا يعرف له بدء ولا انتهاء وتموت في بُوهِيمِيَّتِهِ السياسيةِ الوطنيةُ والهويةُ والانتماء؟ وهل من الحكمة أن يتحول اليمن السعيد من وطن عربي ذي سيادة، وكيان ووجود إلى ملف بائس من ملفات الأمم التحدة، أو إلى ورقة صفراء شاحبة على منضدة الاجتماعات العربية التي في مجملها لا تقدم ولا تؤخر؟ إننى الآن أسجل اعتذاريات إلى (سهيل) الذي لا يود أن يطلع فيرى هذه الكوارث التي لا تليق لا بالأرض ولا بالإنسان، وإلى السيوف التي لم تكن تسل إلا عندما ترى الحكمة اليمانية ذلك، وإلى (ذي رُعين) في بكائه بين يدي ربه، وإلى (البردوني) في ثرى قبره، وإلى (المقالح) وهو يتفتت ويتشظى في تراب وطنه المرزوء، وإلى كل اليمنيين الذين يلهثون خلف لقمة العيش بعيداً عن معاهد صباهم ومراتع شبابهم وهم يبكون كل دقيقة تفر من بلادهم إلى غياهب المجهول. **- (أبكي التي تسكنني ..إذاً أبكي حبيبتي اليمن).