سجل العام (1351ه) مولد "المملكة العربية السعودية"، وذلك بعد ملحمة البطولة التي قادها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه-، على مدى (32) عاماً، بعد استرداده لمدينة "الرياض" عاصمة ملك آبائه وأجداده، في ال(5) من شهر شوال من العام (1319ه)، الموافق (15) يناير لعام (1902م)، حيث صدر في (19) من شهر جمادى الأولى لعام (1351ه) مرسوم ملكي بتوحيد كل أجزاء الدولة السعودية الحديثة، التي قادها أعواما طويلة حافلة بالانجازات على هذه الأرض الطيبة، وواصل أبناؤه من بعده استكمال البنيان ومواصلة المسيرة. ونجده من المناسب في هذا اليوم، أن نُسلط الضوء على جانبٍ من حكمة الملك عبدالعزيز –رحمه الله-، وبُعد نظره، لما حباه الله من بعد نظر وصفاء سريرة، حيث كان يعرف مكانة الرجال، ويعلم علم اليقين أنَّ الذي أخلص مع غيره سوف يخلص معه؛ لذا كان يُعيّن من لم يتفقوا معه في الشؤون السياسية في مناصب قيادية بمجلس الشورى، تطييباً لخاطرهم ولمعرفته بقدراتهم، وتقديراً لمكانتهم، وقد أظهرت له النتائج أنَّ الصفح والتسامح أثَّرا على غالب النفوس، وأنَّ العفو عند المقدرة هو من شيم الأبطال، وفي ذلك قال "المتنبي": وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا وقد كان من أعظم ثمرات الملك عبدالعزيز –رحمه الله- الإنسانية، الإحسان إلى خصومه، إذ يتحول العدو المُجابه بما يسوء إلى نصير مدافع وصديق حميم، وهذا هو ما حققه الملك عبدالعزيز –رحمه الله-، عندما أصدر عفواً عاماً لكل من اختلف معه ولم يبايعه في بادئ الأمر، منطلقاً في ذلك من قول الله –عزَّ وجل- :"ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنَّه وليّ حميم". قال الشاعر: العفو من شيم الكرام والصفح من شأن العظام وأخو الشهامة من عفا عن قدرة على الانتقام معادن الرجال لقد عرف الملك عبدالعزيز –رحمه الله- كيف يملك قلوب خصومه، وذلك بما حباه الله من حلم وبُعد نظر، كما أنَّه عرف معادن الرجال وكيفية استثمارهم، حيث تعامل بإنسانية مع خصومه بأن وضع الثقة فيهم وأسند إليهم المناصب القيادية، وكما قيل:"وما قتل الكريم شيء، مثل العفو عنه"، لذا كان من ثمرات العفو العام الذي أصدره الملك عبدالعزيز بعد توحيد "المملكة" أن أقبل إليه عدد من خيرة الرجال، وبلغ من حرصه عليهم أن عيَّنهم بمجلس الشورى، الذي من خلاله شعر المشاركون بالمسؤولية تجاه وطنهم ومجتمعهم، وأنَّهم مع المسؤول يسعون إلى تحقيق المصالح العامة ودرء المفاسد، في عملية تكاملية تُولّد الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتُطيّب القلوب، وتجعل من رأي الحاكم رأي جميع المسلمين بعد التشاور. وقد أورد الإمام "الماوردي" في هذا المعنى قوله:"لم يزل أهل العقول يفزعون إلى الشورى في كل ما يقع بينهم، ويمدحون فاعله، ويذمون المستبد برأيه، والمرتكب لأهوائه"، وقال أحد الشعراء: خليلي ليس الرأي في صدر واحدٍ أشيرا عليَّ اليوم ما تريان وقال ابن قتيبة :"قرأت في كتاب للهند، أنَّ ملكاً استشار وزراء له، فقال أحدهم: الملك الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة كما يزداد البحر بموارده من الأنهار، وينال بالحزم والرأي ما لا يناله بالقوة والجنود، والمستشير وإن كان أفضل رأياً من المشير، فإنَّه يزداد برأيه رأياً كما تزداد النار بالسليط ضوءاً". من هذا المنطلق نرى الملك عبدالعزيز –رحمه الله- يولي اهتمامه وعنايته بهذا المجلس، وهذه إحدى توجيهاته، التي توضح بجلاء مدى حرصه على المجلس:"تجدون بعض الحكومات تجعل لها مجالس للاستشارة، ولكن كثيراً من تلك المجالس تكون وهمية أكثر منها حقيقية، تُشكَّل ليقال انَّ هناك مجالس وهيئات، ويكون العمل بيد شخص واحد، وينسب العمل للمجموع، أمَّا أنا فلا أريد من هذا المجلس الذي أدعوكم لانتخابه أشكالاً وهمية، وإنَّما أريد شكلاً حقيقياً يجتمع فيه رجال حقيقيون، يعملون جهدهم في تحري المصلحة العامة، لا أريد أوهاماً، وإنَّما أريد حقائق، أريد رجالاً يعملون، فإذا اجتمع أولئك المنتخبون وأشكل عليَّ أمر من الأمور، رجعت إليهم في جلسة، وعملت بمشورتهم، وتكون ذمتي سالمة والمسؤولية عليهم، وأريد منهم أن يعملوا بما يجدون فيه المصلحة، وليس لأحد من الذين هم من طرفي سلطة عليهم ولا على غيرهم". الملك عبدالعزيز.. زعيم حكيم ومحنك شخصيات عفا عنهم ومن سجايا الملك عبدالعزيز –رحمه الله– العفو عند المقدرة، وهي الخصلة التي عرفها أولئك الذين عفا عنهم وقلدهم مناصب في المجلس، ومنهم: * عبد الحميد بن أحمد بن عبد اللطيف بن عبدالله الخطيب: ولد بمكةالمكرمة عام (1316ه)، وتلقى علومه الأولية على يد كثير من كبار العلماء بالمسجد الحرام، وقد أسس جمعية الشبان الحجازية الخيرية، وكان مناهضاً للملك عبدالعزيز، وعند سماعه خبر العفو عنه وعودة أغلب أعضاء الحزب إلى "جدة"، أعلن عبر الصحف بحل الحزب، وأرسل رسالة إلى الملك عبدالعزيز يخبره بذلك، فما كان من الملك عبدالعزيز إلاَّ أن رحب به، وغادر "القاهرة" في (23/2/1355ه)، ولدى مقابلته للملك عيّنه عضواً بمجلس الشورى من عام (1355ه) إلى عام (1366ه)، ثمَّ عُيّن وزيراً مفوضاً لدى "باكستان"، ثم سفيراً بها كأول سفير سعودي بدولة "باكستان" سنة (1373ه)، وتوفي في (18/3/1381ه)، وكان -رحمه الله- نموذجاً مخلصاً لدينه ومليكه ووطنه. * صالح بن بكري شطا: ولد بمكةالمكرمة عام (1302ه)، ونشأ بها، وكان العضو الناشط في جمعية الاتحاد والترقيّ، وهو أحد أعضاء الحزب الوطني الذي تأسس في مدينة "جدة"، قبل أن يدخلها الملك عبدالعزيز، وبعد أن ضم الملك "إقليم الحجاز" إلى "أقاليم المملكة"، تمَّ انتخابه عضواً في الجمعية الأهلية، ثم عضواً في لجنة التفتيش والإصلاح، ثمَّ مستشاراً لنائب جلالة الملك في الحجاز، ثمَّ مديراً للمعارف، فعضواً بمجلس الشورى، وفي عام (1350ه) عين معاوناً لنائب جلالة الملك، وعضواً في مجلس الوكلاء، ثمَّ عاد ثانية إلى مجلس الشورى، فعُين نائباً لرئيس المجلس، وكان له في جميع المناصب التي تولاها مواقف حازمة تبين ثاقب نظرة الملك بالرجال، وتوفي في "مكة" عام (1369ه)، وكان -رحمه الله- نموذجاً للإخلاص والتضحية من أجل دينه ومليكه ووطنه. * محمد طاهر الدباغ: ولد بمكةالمكرمة عام (1308ه)، وهو من الذين اختلفوا مع الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، حيث كان أميناً عاماً وسكرتيراً للحزب الدستوري الحجازي الوطني بجدة، والتحق بحزب الأحرار، إلاَّ أنَّ الملك عبدالعزيز استطاع بحكمته أن يحتوي خصومه بما حباه الله من الحلم والصبر، ليعيدهم إلى وطنهم بعد أن أصدر العفو العام، والسماح لهم بالعودة إلى "الحجاز"، وقد وافق الملك عبدالعزيز على طلب "الدباغ" بالعودة، بل أصدر أمره في محرم (1355ه) مرسوماً ملكياً بتعيينه مديراً عاماً للمعارف في "المملكة" حتى عام (1364ه)، وبعدها صدر أمر بتعيينه عضواً في مجلس الشورى، وتوفي عام (1378ه)، وكان -رحمه الله- مثالاً يحتذى في العمل، وحب الخير، ونشر العلم، وخدمة الوطن. * عبدالرؤوف بن محمد بن صالح الصبّان: ولد مكةالمكرمة عام (1316ه)، وهو أحد أعضاء الحزب الوطني الحجازي، وفي كتاب "الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة" لمؤلفه "د. تقي الدين الهلالي"، قال:"وحينما قابلته في بغداد فوجدته نادماً على عدم قبول نصيحتي عندما عرض عليه الملك (علي) أن يكون سكرتيراً فقلت له لا تقبلها، إلاَّ أنَّه لم يأخذ بنصيحتي"، وحينما أصدر جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- العفو في عام (1354ه) بالعودة إلى بلادهم والعمل، كان الشيخ (عبدالرؤوف) من أوائل الرجال الذين استجابوا لهذا النداء، وعُين عضواً في مجلس الشورى، فكان من أبرز الأعضاء العاملين في المجلس، وبعد وفاة عبدالوهاب نائب الحرم –والد أحمد عبدالوهاب، رئيس التشريفات الملكية آنذاك- عُين محله مديراً عاماً للأوقاف بمكةالمكرمة، ثمَّ عُين أميناً للعاصمة"، توفي في "لبنان" عام (1384ه)، وكان -رحمه الله- من الرجال الأوائل المخلصين لدينهم ومليكهم ووطنهم. * رشيد بن ناصر بن ليلى: كان وكيلاً لابن رشيد -رحمه الله- ووسيطه مع العثمانيين، وبعد دخول الملك عبدالعزيز –رحمه الله- إلى "حائل" أراد "ابن ليلى" العودة إلى البلاد، فكتب للملك عبدالعزيز، مع خشيته من أنَّ مواقفه السابقة قد لا تشفع له، وفوجئ بالإجابة التي احتوت على الترحيب، بل أكثر من ذلك بأن عيَّنه عضواً في مجلس الشورى. يذكر عبدالرحمن بن سليمان الرويشد في كتابه "عبدالله السليمان الحمدان صفحة مشرقة في تاريخ المملكة العربية السعودية" (ومن مزايا الملك عبدالعزيز –رحمه الله-، التي لا يشاركه فيها إلاَّ القلة اصطناعه للرجال، ذلك أنَّه كان يعتقد في نفسه أنَّ الإخلاص في العمل غريزة قلما يتجرد منها الإنسان"، ثمَّ تحدث عن انتفاعه واحتوائه لمن خالفوه في بادئ الأمر، بل منحهم الثقة في المساهمة في بناء البلاد وتحسين وضع المجتمع)، ثم قال :"فمثلاً كان شخص يدعى الشيخ (رشيد الناصر بن ليلى) وكيلاً لابن رشيد ووسيطه مع الترك العثمانيين، وكان يتسلم من الأتراك السلاح والعتاد والمال ويبعث لابن رشيد بها لتساعده في حربه ضد الملك عبدالعزيز، وعندما تمكّن منه الملك عبدالعزيز بعد القضاء على ابن رشيد، قال له عبدالعزيز: بماذا أعاقبك؟، فقال له الشيخ رشيد بوضوح وصراحة: بما تهوى، وما أنا بنادم على ما فعلت مع ابن رشيد، فقال له عبدالعزيز: لقد أخلصت في خدمة صاحبك، وقد زال صاحبك، وإنِّي لأرى فيك غريزة الإخلاص، فعد إلى دمشق وأنت وكيلي هناك، فكان ممثلاً لعبدالعزيز في سورية إلى نهاية حياته، توفي في "دمشق" عام (1362ه)، وكان -رحمه الله- نموذجاً مخلصاً لدينه ومليكه ووطنه. * باحث ومؤرخ علاقة المؤسس مع مستشاريه نابعة من خدمة الدين والوطن ومصالح الشعب