"إذا أردت قياس مدى توفر وتمظهر منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية كالتسامح والتآخي وقبول الآخر في أي مجتمع، فما عليك سوى رصد وملاحظة نوعية الردود والتعليقات والحوارات التي يتم تداولها بكثافة في مواقع التواصل الاجتماعي كتويتر والفيس بوك واليوتيوب. إذ تُعتبر ظاهرة الردود والتعليقات في مواقع التواصل الاجتماعي، النسخة الأحدث والأكثر جرأة وتطرفاً، بين كل الأساليب والأدبيات التقليدية". بهذا الرد الطويل نسبياً، أجبت في لقاء فضائي قبل مدة، على سؤال مستفز، ألقت به فجأة، مذيعة حسناء، كانت تهتم كثيراً بالنظر للمرآة التي أمامها، أكثر من حرصها واهتمامها بمعرفة بعض التفاصيل المهمة عن موضوع الحلقة، وهو خطورة مواقع التواصل الاجتماعي على أجيالنا الشابة. المجتمع السعودي، لا يختلف كثيراً عن باقي المجتمعات، في تعاطيه مع التحديات والأزمات التي تواجهه، ولكنني هنا، أحاول أن أسجل ظاهرة هي حالة غاية في الخطورة، وتحتاج إلى دراسة وتأمل، وهي تغليب العاطفة والميول على الموضوعية والحكمة في التعامل مع وسائل ووسائط التقنية الحديثة، ويبرز ذلك بشكل واضح وفاضح، في نوعية الردود والتعليقات والهاشتاقات التي تتداولها مكونات وفئات المجتمع، ولكن الأمر يزداد غرابة وحيرة، حينما ينساق المثقفون والمفكرون والعلماء والدعاة إلى تعليقات ومطارحات وحوارات عصبية وطائفية! لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، ساحة واسعة لممارسة الكراهية والبغضاء والطائفية، بل ومنصة كبيرة لتصفية الحسابات والأحقاد. فمنذ عقدين تقريباً، أتاحت فضاءات ومساحات الانترنت غير المحدودة، للتقنية الحديثة بمختلف وسائلها ووسائطها، الفرصة كاملة لصناعة حالة تفاعلية بين منتجي المعرفة ومستهلكيها، بعد أن كانت علاقة في اتجاه واحد فقط. لقد استطاعت مواقع التواصل الاجتماعي، أن تخلق حالة من الشراكة الحقيقية بين الكاتب والقارئ، لتختلط الكتابات بالتعليقات، وتتماهى الاختلافات بالإعجابات، وتتكامل الأفكار مع الردود. لقد شكلت الحقبة الرقمية التي نعيش أصداءها الآن، ثورة تسونامية هائلة، أطاحت بكل القيم والأعراف والمقاييس التقليدية السابقة، وخلقت عالماً ديناميكياً مذهلاً في شاشة صغيرة جداً، ولكنها تكبُر وتتضخم، لتكون بحجم الآمال والطموحات والتطلعات البشرية التي لا حدود لها. ولكن في المقابل، تسببت هذه المواقع والوسائط والوسائل، في استدعاء وبروز الكثير من مظاهر العنف والتطرف والتعصب والتمذهب، والتي تفوح رائحتها الكريهة، بين تلك الردود والتعليقات والحوارات، التي يستخدمها الكثير من مرتادي تلك المواقع والوسائط. للأسف الشديد، لم يعد هناك قيمة لشرف الخصومة، أو أدب الاختلاف، أو تفهم وجهة نظر الآخر. يكفي أن تكتب فكرة أو رأياً أو تقوم بإعادة تغريد لصورة أو معلومة في تويتر، لا تنسجم مع قناعة البعض، لتُفتح عليك بوابات الجحيم، وتتعرض لوابل من الشتائم والبذاءة، بل وقد يصل الأمر للتخوين والتكفير. ما يرشح من شتائم وبذاءات في تويتر والفيس بوك واليوتيوب وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، ظاهرة مرضية خطيرة، وتحتاج إلى تدخل سريع من قبل كل مفاصل ومكونات الوطن، إضافة إلى ضرورة سن وتشريع قوانين وتنظيمات واضحة وحازمة، لوقف كل حفلات الشتائم التي يُمارسها الكثير في مواقع التواصل الاجتماعي. فقبل يومين، كتبت هذه التغريدة: مجتمعنا يحتاج لدور سينما.. ليتني لم أكتبها، لأن بعض الردود، لا يمكن تخيلها!