ورقة أولى: شاعر الشدو والشجن في مجموعته الشعرية "أيورق الندم" (1) يحملنا الشاعر السعودي سعد الحميدين على أجنحة الشعر ليحلق بنا بعيداً، بعيداً حيث سماء الشعر المفتوحة نحو أفق صافٍ بلا غيوم أو ضباب. يحملنا إلى المدهش المحيّر, إلى اللامتناهي من الرقة والعذوبة, إلى الشدو والشجن. هناك.. إلى الإشراق, حيث روحه الباحثة عن السكينة والطمأنينة في سفر دائم داخل سماء الشعر, يعرج بنا إلى اللاوعي فيعرّيه بذاته الحائرة القلقة وطقوسه الإشراقية في عالم متغيّر خادع لبس عباءة حلم جميل. يعرّيه من أجل وعي الذات المستترة في جسدنا, المتقوقعة في صمتها, لخلق وعي جديد يدرك به العالم برؤية استبصارية أمينة, غير عاجزة, تنبض بالرؤى, وتتشكل في اليقظة في لحظات تكشّف ومصادمة لحقيقة موجعة آن لها أن تبين. هنا تكمن قوة الحميدين (شاعر الشدو والشجن) في خلق هذا المدهش الذي يراه الناس عادياً حين تثير الدهشة فينا الفضول الى المعرفة, وحين تدور في فلك الإيحاء وحول مركز دائرة الغموض دون أن تدخل فيه, يشعل الشاعر فجأة "حطب الدهشة" (2) لنتدفأ عليه. وقتها يضجّ النص بخصوبة متجدّدة لا تحترق: "كما في الأحلامْ يبقى مرجانٌ.. صورتهُ رقصته في دورته عند الأبوابْ صورة إنسان, لم يملك شيئاً في دنياه إلا رمزاً وسم به.." (أيورق الندم/ مرجان ص "23") ورقة ثانية: مرجان: الرقص على الجراح..! "يرفضُّ جبينٌ مغبّرٌ وتسحُّ خيوط ساطعةٌ من أعلى الفودين لحرف الذقنْ أنهار من عرق مالحْ تتقاطر فوق الصدر.. وفوق البطن.. و.. و.. مرجان يهزُّ والطفل يهزّ.. والطفلة تهتفُ جذلانه: "جانا العيد ياسيدي والعيد جانا"." ("ص 13 - 14") إذا كانت المأساة الإنسانية هي خامة الآداب والفنون منذ فجر التاريخ, فما السرّ في استمرارها..!! أهي الرؤية القائمة في جوهرها العميق؟ أم الرؤيا في عملية الهدم والبناء لإقامة حلم جديد على أنقاض واقع مرير..؟ أم هي (الرؤيا الإنسانية) التي يكشف لنا الشاعر عن وجهها الحزين: "لا يعرف أحدٌ اسمه إلا من خبره يُعرف ماذا يفعل طول العام في البستان وفي الركبان يحرث.. يزرع.. يحصد.. يحرس يشيل .. يحطّ كما الآلة طول العامْ ويقدّمُ للسيد أتعابهْ الفرصة واحدة في العامْ تبدأ بهلال العيد وتصكُّ بثالثة العيد ليعود لحالته الأولى في البستان/ وفي الركبان يحميها من بشر.. حيوان أو عصفور بالمشعاب../ وبالمقلاعْ..!" ("ص 14 - 15") يقول م. ل. روزنتال (3): حين يدخل الشاعر بمشكلات الحياة مدار عالمه الجديد فهو يعيد صوغها ويكشف لنا من معاني وجودنا المعاصر أكثر بكثير مما يخطر ببالنا. الشاعر سعد الحميدين, فعلها في (مرجان) وعلى طريقة مدرسة إليوت التي سماها الدكتور غالي شكري "إعادة الشعر إلى الحياة". (4), فعلها الحميدين حين استلهم لغة الحديث اليومية, والتراث الشعبي في بناء (جسد) قصيدته مرجان, هذا البناء الذي لم يعد قائماً على منطق (الرؤيا) الفنية, لأن لغة الحياة كوّنت لديه صورة لغوية جديدة ابتعدت عن التراكيب اللفظية المنتقاة والزخرفة الموشاة, واغتنت بدلالاتها الحرفية حين صورت المتناقضات (واقع مرجان البائس# فرح الناس بالعيد) بصور عفوية مرحة لكنها (منزاحة) الى ما وراء هذه العفوية إلى الألم.. حيث صار مرجان وأمثاله "المعذبون في الأرض" مثل سجناء دانتي في دهاليز الجحيم "تعساء لم يولدوا ولم يموتوا, لا يستحقون لوماً ولا تمجيداً"..! إنهم على هامش الحياة, لكنهم بشر يعانون, يتألمون, يفرحون ويبكون: "يهديه الناسُ لباسَ العيدْ يلبسُ طولَ العامْ لا حاجة عنده للمصروفْ يأكل من ثمر البستان/ وصيد البستانْ مع الثيران يحرث../ يبذرُ.. يزرع.. يسقي.. يحصدُ يحمي يصرخ في كل مكان يبصقُ .. يلعنُ منتظراً أيامَ العيدْ". ("ص 20 -21") ورقة ثالثة: "الضيف المنكود على الأرض المظلمة" وتبقى (مرجان) طاقة تعبيرية جديدة, أرادها الشاعر بدلالة جديدة, لخلق مستويات من التذوق الجمالي, بطوابق متعددة من الغنائية التطريبية: طابق: البساطة في الحكاية الشعرية والتعلّق بالموروث الشعبي: "والجسم يروج بأنغام الطمبرة المحزوقة كش.. كش كش.. كش ياسيدي والعيد جانا ياسيدي وأبغى الغبانا ياسيدي مْقْطعْ جديدْ ويدور هياجْ.." ("ص 10 ") وطابق: الرمز في منح اللغة طاقة تعبيرية (منزاحة) عن واجهة دلالية مباشرة: "مرجان .. وجه محترق كالحرة بلهيب الشمس مرجان.. يقرؤني في التاريخ الماضي بالقطعة والحرف بالكسرة . والضمة أحياناً بالفتح وحيناً بالحذف فألملم أطراف الأحداث وأنظمُها في خيط الكلماتْ حتى تشهقَ.. أن لا مرجانَ.. سوى مرجانْ..!". ("ص 9") وطابق: العفوية الشعرية البعيد عن (افتعالية شعرية) تخنق روح النص في الركض اللاهث حول الزخارف والقوافي: "يا مرجان .. يامرجانْ صرخات الصبية في كل مكانْ عند الأبواب وفي الشرفات تدعو مرجانْ مرجان يجيب الدعوات بدءاً بالباب الأول ويكون الثاني , والثالث والرابع , والخا.. حتى آخر باب في الحي." ("ص 11") ويظل مرجان في ذاكرتنا - كما أراده الشاعر الحميدين - غريباً لكنه صورة لواحد منا: "في كل زمان, في كل الأوطانْ." ("ص21") لأن مرجان (الإنسان) هو هو كما خاطبه غوته: "أنت لست سوى ضيف منكود على الأرض المظلمة"..!! هوامش: (1) أيورق الندم - شعر سعد الحميدين , ط1 نادي الطائف الأدبي 1994م. (2) حطب الدهشة, كتاب نقدي للشاعر السوري حسان عطوان. (3) ناقد أمريكي - من كتابه (شعراء المدرسة الحديثة), المكتبة الأهلية - بيروت, ط 1 عام 1963م. (4) راجع كتاب الدكتور غالي شكري (شعرنا الحديث إلى أين), دار الآفاق - بيروت, ط 2 عام 1978م.