مدينة درزدن الألمانية تعيش على ذكرى مؤلمة لم تفلح في نسيانها حتى اليوم.. فهذه المدينة الواقعة في شرق ألمانيا تعرضت للتدمير الكامل من قبل القاذفات الأمريكية والبريطانية في نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت ألمانيا قد انهزمت بالفعل وبالتالي لم يكن هناك مبرر لقتل 40 ألفاً من سكانها خلال ليلتين فقط (13 و14 فبراير 1945).. سويت مبانيها بالأرض ولم يبق قائماً منها سوى 9% أبرزها كنيسة ضخمة في قلب المدينة أصبحت شاهداً على فظاعة الحرب (ولمعرفة المزيد عن هذه المدينة التي زرتها بنفسي ابحث في النت عن مقال: اغتيال درزدن)!! ... ومباني درزدن المدمرة وتحديداً ما بقي منها على حاله تذكرنا بنُصب حربية مماثلة حول العالم.. ففي اليابان مثلاً هناك نصب السلام في هيروشيما الذي بقي على حاله منذ الحرب العالمية الثانية. وهو في الأصل مبنى يتميز بقبة كبيرة تعرضت واجهته للانهيار جراء القنبلة الذرية التي أسقطها الأمريكان على المدينة.. ففي صباح السادس من أغسطس1945 انفجرت القنبلة قبل وصولها للأرض فتبخر 80 ألف إنسان وأصيب90 ألفاً آخرون بحروق فظيعة. وفي حين اختفت معظم مباني هيروشيما نجا هذا المبنى بالذات بفضل انفجار القنبلة فوقه تماماً (كون مركز الانفجار يظل هادئاً مقارنة بعواصف النار التي تنطلق منه في كل اتجاه).. وفي السنوات التالية أعاد اليابانيون بناء مدينتهم أفضل مما كانت، ولكنهم تركوا المبنى على حاله شاهداً على فظاعة السلاح وغطرسة القوة.. وفي عام 1996 ضمت اليونسكو المبنى (الذي يدعوه اليابانيون قبة القنبلة النووية) إلى قائمة التراث العالمي في حين اعترضت أمريكا على هذا الاختيار كونه يدينها خصوصاً أن اليابان كانت مثل ألمانيا قد انهزمت فعلاً ولم يكن هناك مبرر لإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما ونجازاكي!! ... وهذان المبنيان (كنيسة درزدن، وقبة هيروشيما) مجرد مثال على نُصب عالمية تحولت (رغم فظاعتها) إلى معالم مميزة وطنية أو سياحية مميزة.. خذ أيضا كمثال أهرامات العظام في كمبوديا؛ فبين عامي1975 و1979 ارتكب الخمير الحمر (الميليشيات الشيوعية) مجازر جماعية قضت على ثلاثة ملايين مواطن. وقد يبدو هذا الرقم متواضعاً مقارنة بمجازر ستالين وهتلر ولكنه كان يساوي (ثلث الشعب) حينذاك.. واليوم أصبحت السياحة الكمبودية تعتمد كثيراً على رغبة السياح في زيارة مايعرف (بحقول الموت) حيث كان المواطنون يُجمعون بالآلاف ويقتلون بالدور.. وحالياً يتم تمييز هذه الحقول بأهرامات زجاجية تضم داخلها المئات من جماجم وعظام الضحايا.. ويعد حقل (توينج إيك) من أكثرها شهرة حيث يضم في منتصفه هرماً ضخماً مكوناً من 8000 هيكل عظمي ويزوره سنوياً أكثر من 8 ملايين سائح!! ... وكنت شخصياً قد ذهبت إلى بلجيكا قبل سنوات واشتركت في رحلة سياحية يتم تنظيمها إلى موقع معركة السوم (حيث قتل أكبر عدد من الجنود في الحربين العالميتين الأولى والثانية).. والمنطقة عبارة عن تلال خلابة يقطعها نهر السوم ولا يتصور أحد أنها شهدت أكثر المعارك ضراوة خلال الحربين العالميتين.. المرة الأولى كانت عام 1916 ونجم عنها قتل650 ألف شاب ألماني و620 ألف شاب بريطاني وفرنسي.. وفي الحرب الثانية تكررت نفس الحماقة وسقط مليون ونصف مليون جندي بلا نتيجة واضحة. ولأن ظروف القتال لم تسمح للجانبين بنقل قتلاهم أخبرنا (المرشد السياحي) أن المحاصيل أتت وفيرة في الأعوام التالية بفضل جثث الرجال التي خصبت الأرض.. واليوم أصبحت أرض المعارك نفسها نُصباً تذكارية يزورها عدد كبير من السياح الأجانب البعض للاتعاظ والأغلبية بدافع الفضول!! ... شعور ثقيل ومؤسف وحزين يتملكني شخصياً كلما تواجدت في مواقع كهذه.. لا يسعك سوى أن تنظر باتجاة السماء وتتخيل مشاعر الرعب التي رافقت صعود عدد كبير من الأرواح خلال وقت قصير من عمر الزمن.....