في يوليو الماضي كنت في زيارة لمدينة براغ عاصمة تشيكيا حين أخذت رحلة ليلية في نهر فلتافا . وعلى ظهر السفينة تعرفت على عجوز أمريكية كانت تلف أوربا منذ شهرين .. وحين أخبرتني بالمدن التي زارتها حتى الآن قاطعتها مبتسما : وبالطبع ستكون وجهتك التالية مدينة درزدن في ألمانيا (كونها أقرب مدينة من براغ تستحق الزيارة) .. ولكنها لم تشاركني الابتسامة بل قالت بجدية : أنا كأمريكية أخجل من زيارة درزدن .. وبسرعة فهمت قصدها فحاولت تلطيف الموقف بقولي : هل تعلمين أنني أفكر منذ سنوات بالكتابة عن هذه المدينة .. فسألتني : ولماذا لم تفعل حتى الآن؟ قلت : لأنه يصعب علي الكتابة عن شيء لم أزره أو أراه بنفسي .. فعادت وسألت : إذاً ستذهب إليها بعد براغ .. قلت : غدا صباحا .. !! ... وبيني وبينك أنا شخصيا كنت سأخجل من زيارة درزدن لو كنت مكانها . فهذه المدينة الجميلة الواقعة في شرق ألمانيا تعرضت للتدمير الكامل من قبل القاذفات الأمريكية اثناء الحرب العالمية الثانية .. كما قتلت بمشاركة القاذفات البريطانية أكثر من 40 ألفا من سكانها خلال ليلتين فقط ( 13 و 14 فبراير 1945) . وكانت درزدن قد سلمت (حتى آخر أيام الحرب) من الدمار وبقيت واحدة من أهم مراكز الفنون والآثار الجرمانية في أوربا . ولكن بسبب تميزها الحضاري ومركزها التاريخي قرر الحلفاء تدميرها للتأثير على معنويات الشعب الألماني .. والمخجل أن هذا القرار أتى في وقت أصبحت فيه هزيمة ألمانيا شبه مؤكدة ناهيك عن تعمد قوات الحلفاء قصف القصور والآثار التاريخية بالذات. وخلال يومين فقط قامت 1300 قاذفة بإلقاء 3900 طن من القنابل متسببة بقتل 40 ألف مدني وتدمير 90% من وسط المدينة التاريخي.. وفي حين برر البريطانيون تدمير درزدن كانتقام من قصف لندن بالصواريخ ، لم يكن لدى الأمريكان أي مبرر عسكري أو أخلاقي لتدمير المدينة وقتل هذا العدد من المدنيين .. ومازاد الطينة بلة أن درزدن سرعان ما وقعت تحت سيطرة القوات الروسية القادمة من الشرق التي نهبت ما تبقى من كنوز وآثار المدينة انتقاما من سرقة القوات الألمانية للآثار الروسية !! ... أما الجميل في الموضوع فهو تصميم الشعب الألماني على إعادة بناء المدينة حسب وضعها السابق .. فبعد خمس سنوات من انتهاء الحرب باشرت ألمانياالشرقية (سابقا) بترميم درزدن وبناء المعالم الرئيسية كما كانت (بالضبط) .. وفي محاولة لتأصيل أعمال الترميم تم بناء القصور والكنائس بنفس الحجارة الأصلية التي سقطت منها أثناء الغارات .. وما أدهشني شخصيا أن المباني المرممة (مثل متحف زفينجر والكاتدرائية الكاثوليكية) بدت من الخارج كلعبة أحجية ضخمة تتكون من حجارة أصلية (محروقة سوداء) متداخلة مع أحجار جديدة (مقلدة بيضاء) .. وبفضل التقارب الايدلوجي مع الاتحاد السوفياتي السابق استطاعت حكومة ألمانياالشرقية اقناع موسكو بتسليم الآثار المسروقة وإعادتها لمواقعها ومتاحفها الخاصة !! ... ولكن .. رغم أن درزدن مازالت واحدة من أهم الوجهات الثقافية في ألمانيا إلا أنها فقدت بدون شك بريقها السابق حيث يتملك الزائر أنها مدينة مصطنعة بنيت على عجل.. وما يساهم في تعزيز هذا الشعور أن بقية المساحات المدمرة أعيد إنشاؤها على النمط الحديث بحيث أصبحت المباني الزجاجية تتقاطع مع المواقع التاريخية بشكل غير متناغم أو مريح !! ... وحين زرتها شخصيا أدركت سبب تردد الأمريكان وربما الانجليز في زيارة درزدن .. فبالإضافة إلى الخجل والشعور بالذنب ؛ لا يرحب أهالي درزدن انفسهم بالسياح الأمريكان ( لدرجة لا تجد لوحة أو خريطة أو منشورا سياحيا يكتب باللغة الانجليزية ) !!!