من المؤكد أن العالم لا ينكر أن أعداد المرضى النفسيين في الحياة الباذخة في تقدم مستمر، وهذا ما طرح مسألة جوهر الحداثة والعقلنة المستمرة والدائمة لجميع مظاهر الحياة، والتحديث الذي يحرر الواقع ومظاهره من اللامعقول . ما يرجح إعادة تقديم كشف قائمة من المهام الذاتية التي تحدد الطبيعة، وتلازم الإرادة والسيطرة عند الناس، ومعرفة نقاط التنازع بين الحاضر والماضي، والبؤر السوداء داخل الأرواح وعلاج العزلة وإدراك معنى الهرب بدلاً من الاختباء، خلف مرجعية غريبة تجذرت في العقول، وفقدت آليات الحاضر والمعقول . وما أضافه "فوكو" من توضيح مفاده (أن المجنون مضطر لقبول وضعه الجديد المشابه للتافهين، وهذا التبدل السطحي يعود إلى كون الغرب أدرك أن الحجز بمعنى الحبس خطأ فاحش، وغلطة اقتصادية، تنافي الواقع الحاضر وأن الوضع الأسري للمجنون يُعاد تشكيله، فهو قد أصبح غير منتج، وقد أقصي واستبعد عن الأسرة، وأن سلامة البنية العائلية أمر يهم المدينة)، وماهية السؤال هنا بمعنى جوهره، هل هذا الجنون دخيل على العقل البشري والحياة الاجتماعية والقيم الجماهيرية ؟ ومن هنا لابد أن يستنكر العالم القسوة والمذابح التي يذهب إليها الشباب بمحض إرادتهم، وبهذه الطريقة، تكون الدولة مسؤولة ولها حق الوصاية على الأشخاص الذين فقدوا الأهلية والرشد وتركوا وطنهم وذويهم إلى حروب خاسرة . ومن جانب آخر نستطيع القول إن عجز هؤلاء عن صناعة واقع دنيوي، له عدة تفسيرات أهمها كتابة تاريخ مغاير لواقع البشرية أغرقهم في غيبيات لا مدى لها، (لقد أرجع سيغموند فرويد كثيرا من الاضطرابات إلى عوامل جنسية بحتة، ولكنه بالمقابل تجاهل الجانب الاجتماعي وكيفية تأثيره في الشخصية السوية وتأثيره أيضاً في العقد الجنسية)، وبالتالي فإن جهودهم الشخصية غير مطابقة للعقل، ودعوى الجهاد غير مكتملة الشروط، فعلى سبيل المثال أول أحلامهم الحور العين، إن المجتمع أمام تجارب جديدة تشابه في مجملها الجنون والموت والجريمة. فلو أخذنا بعين الاعتبار المغالطات والمحرض الحقيقي لها في عصر التقنية والعلم، لوجدنا أن هناك حالة انقلاب مزدوجة بين الجنون والهوس، وضبابية حجبت الصواب، وبمزيد من الغرابة نجد أن طريق المفارقة طريق سلكه جهلة يحملون شهادات عليا. فالحق الطبيعي في الفعل الإنساني صيانة الحياة من العطب، تفيد أن التنازل قليلا من أجل سلم اجتماعي وأسري، يعيد تشكيل الذات ويدرك المعارف الكلية عوضا عن الخيالات الوهمية، ووقف القوى العشوائية التي تُمارس لكسب القناعات المشوشة، أمر يعادل ويساوي قضايا الوهم برمتها. إن الحقيقة في متناول الناس اليوم وفي نفس الوقت نرتاب من الخلل الذي رافق تلك الحقائق في عالم مضطرب مثل العالم المعاصر، وأفراد في معاقل حياتهم ينتهون إلى الجنون، يمارسون أعمالا لا تمت للعقل بصلة، ما يجعل القارئ يتساءل عن ماهية الجمع بين الجنون والعصر.