يغلب على الكثيرين تخيل مظاهر الإعمار الحضاري وأنها أصبحت جزءا حقيقيا خاصة حينما يتطلعون إلى مجسمات المشاريع المستقبلية وأن تلك المشاريع ستكون الانطلاقة التي يرجونها لذلك وبأن هذه الحلول المؤقتة عبر المشاريع الكبرى ستكون هي الوسيلة المنقذة من الأوضاع الحالية والذي يمرون به فلا يمكن اعتبار أن عدة مشاريع غير مترابطة ستطور من أسلوب المعيشة لذات المجتمع مهما كانت تلك المشاريع ضخمة. الإعمار الحضاري الذي نريد أن نبلغه مستقبلا ليست طريقته الكم بل الكيف وإلا فإن ارتفاع تكلفة فاتورة المشاريع ليس لها وزن أصلا في تلك الحالة تحديدا وكمفهوم عام للإعمار الحضاري يمكن أن نعرفه بأنه خلق أسلوب معيشي مناسب وداعم للمجتمع من خلال التحفيز والإنجاز والإبداع والابتكار فالأمر كليا يدور حول المجتمع لا حول نوع وطبيعة المشاريع وقيمة فاتورة تكلفتها، فمضمون الإعمار الحضاري يختزل في أربعة عوامل رئيسة مترابطة وهي الموارد الاقتصادية والنظم السياسية والتقاليد المجتمعية والعلوم والفنون ويفهم من ذلك أن الإعمار الحضاري هو ذروة ما يميزنا عن غيرنا من خلال تلك العوامل الرئيسية، ويبقى أن تحليل كل عامل منها يخضع إلى أن يكون في إطاره الزمني الصحيح بين واقع حالي ومستقبل مأمول كنتيجة نصبو له كمجتمع من إعمار حضاري نفاخر به فكافة العوامل الأربعة ذات صلة ورابط قوي بالمجتمع نفسه وإن كان العاملان الأخيران أكثر تفاعلا مع المجتمعات فالتقاليد والأعراف المجتمعية هي جزء من حضارة المجتمع وتعاملاته وهويته ليخاطب من خلالها حضارات ومجتمعات أخرى والعلوم المختلفة والعلماء هم العامل الأكثر تأثيرا في تطور وتقدم المجتمع إضافة إلى حجم التأثير والمعرفة لدى المجتمع بالفنون الإنسانية المختلفة ومنها الفن المعماري على سبيل المثال فالفنون المعمارية الباقية اليوم تحكي جزءا من قصة حضارات نشأت ثم استمرت إلى أن بادت فبقيت تلك الشواهد المعمارية لمن يأتي بعدها من الأمم والمجتمعات وظلت بذلك شاهدة على عمق وقدرة تلك الحضارات في عصرها الذي نشأت فيه. الأعمار الحضاري منظومة لا تصنعها المادة فقط فما هي إلا عنصر مسرع في عملية نشأة الأعمار الحضاري والذي نؤكد يقينا بأننا ما زلنا نتوارث حضارة لم نصنعها بأنفسنا ومن الأولى أن ندرك أهمية المحافظة عليها ورعايتها من خلال ما أتيح لنا من تقنيات وأدوات مع الاستدلال على طرق وأساليب تلك الحضارات ومراعاة عامل اختلاف الزمن وان نشرع في الإضافة لها بنتاج خبراتنا وعلومنا ومعارفنا وتقنياتنا ونؤسس لصنع منظومة محسنة تخصنا وتحكي زمننا من خلال إدراك العوامل الأربعة للإعمار الحضاري وعناصر قوة كل عامل منها وذلك لتتوج بإعمار حضاري يزدهر ويؤثر في الآخرين ويصنع مجداً للمستقبل وأداة قوية قادرة على التطور والتقدم والتحضر. إلا انه يبقى عاملا مهما جدا أود تسليط الضوء عليه وهو أننا ما زلنا نفقد الكثير من فهمنا لعملية الإعمار الحضاري جراء ما تتشوه به المفاهيم الحديثة في العوامل الأربعة للإعمار الحضاري خلال عمليات نقل المعرفة بصورة خاطئة من مجتمع إلى آخر سواء من خلال خطأ فهم المرسل أو المتلقي لها أو من خلال عملية إعادة صياغتها لتتناسب مع مجتمعاتنا. يظل أن التاريخ دوما يخبرنا بطريقة غير مباشرة بأن الحضارات التي تبقى هي الحضارات التي تصنع مفاهيم عامة تتناسب مع عامل الزمن ويتأقلم معها المجتمع بشكل مؤثر.