مر الانسان بمراحل ذات أهمية في حياته بدءا من ضعف يعززه الأمل ومرورا بمرحلة التأهيل للمستقبل مرحلة تدعمها الحيوية والتمرد والطموح تطلعا إلى مرحلة العطاء المغذاة بالتنشئة والتشكيل من أجل عطاء أفضل، وأخيرا تحل مرحلة الاسترخاء، مرحلة يبلغها الانسان بعد جهد مرهق وكسل مزر أو كلل محبط، فلا يستطيع الهروب من المصير المحتوم ويراوده الأمل مرة أخرى طمعاً في الآخرة فيعمل لها ما حالفه التوفيق. والآداب العالمية تناولت هذه الجوانب وأثرت إبداعها برؤاها المتنوعة وبخاصة مرحلتي الشباب والمشيب اللتين سأتناول اليوم طرفاً منهما من خلال الأدب الشعبي الذي ركز كثيراً على المشيب لما يترك في الإنسان من خوف وإحباط، وما يشعل فيه من حسرات. لقد حرضني على طرق باب هذا الموضوع كتاب طريف للباحث القدير سعد الجنيدل رحمه الله، دعاه"خواطر ونوادر تراثية" تدور معظم أحداثها فيما حول الدوادمي إلى الرياض منطقة الباحث ومرتع صباه، وهذا مما يرفع من قيمة الكتاب الذي حرص المؤلف على تقريب محتواه بشرح نصوصه والتوسع في تحليل الأحداث التي عدها الباحث من النوادر وعززها بالخواطر. من ملامح مرحلة الشباب شغل أوقات الفراغ بممارسة الهوايات وأكثرها الصيد وارفعها درجة صيد الوعول والغزلان التي كانت تغري بالصيد والطراد وليس باستطاعة أي شاب ممارسة ذلك لما يكتنف مراتعها من أخطار الوحوش والزواحف والعناكب وما يواجه الصياد من مصاعب المسالك والظمأ والانتظار وحمل الصيد، وبخاصة في مواسم الصيف وشدة الحرارة أكثر أيام الصيد والطراد. ووسائل الصيد كانت بالطيور والكلاب المدربة(السلق) والبنادق ونحو ذلك، وهو هواية من الهوايات الأثيرة إلى النفس ومحل اعتزاز وفخر الصياد. ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب وإذا كان الصيد يسد حاجة اقتصادية فإنه في الأصل هواية أودت بالحياة الفطرية في بلادنا ساهمت السيارة والبنادق في الإسراف بهذه الثروة. وقد أبدع الشاعر عبدالله بن سبيل في قوله: باهل الهوى من شارب الخمر شارات وفيهم من اللي يطرد الصيد شاية شارات راعي الخمر افاقة وسكرات والصيد ولعة ما على الله كناية وأهل الهوى هم العشاق، ووجه المقارنة كما يصف الشاعر في البيت الثاني أن الهواية من الهوى ولع وتعلق قد يفقد الهاوي تركيزه فيعرض نفسه للخطر ويسرف في الصيد، وهذا وجه المقارنة مع الخمر لشاربه. ويستشهد الجنيدل بالشاعر رماح العتيبي الذي كني أخو وحش، ربما لهواية الصيد الذي كان مولعا به وهو من أهل الشعراء وتوفي في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، كان يقنص الوعول في جبل ثهلان الشهير، وعندما تقدم به السن قصر عن هوايته الطراد ولكنه وأمثاله كانوا يصحبون الشباب في قنصهم فيختارون مكاناً في الجبل يريحون فيه ويذهب الشباب للصيد ثم يعودون إليهم به. وذات مرة تهيأ رماح لمصاحبة الشباب للقنص وأشار إليه أحد جلسائه:" إلى أين يا رماح؟ أرح نفسك مع الشيبان واترك الصيد، الشباب يكفونك فغاظه هذا القول فقال: يقول لي عبدالعزيز اترك الصيد خلك مع الشيبان جوف السواد الشايب اللي من حساب التساويد ودك تحطه بين شهب الحنادي" ثم يرد على صديقه منكراً بلوغه سن العجز عن الصيد: مادام فتّال الكبر ما فتل قيد لاصل حراوي الرزق والرزق بادي لامشي لهن ضيحة وحل المواريد والرزق عند الله ولي العباد ثم ينتقل إلى وصف مدارك الصيد وسعادة الشباب واعتزازهم بصيدهم: والى رقوا ضلعٍ عريض التماديد هو مدهل الخدرات حجل الأيادي وتغانموه بلافظات العباريد كلٍ على وطله يعرف المَعَادي والى تلافوا بالمكان الأواليد وتناشدوا كل يعد الوكاد هاك الضحى كِنّه عليهم ضحى العيد ولا كبّر المجلس كثير الدوادي ثم يعرف الصيد بأنه ولع وعشق كما هي حال العشاق: الصيد ولعة لا تجارة ولا فيد ومن ذاق شيٍ باول العمر عاد الصيد ولعة مثل عليا وابوزيد يدري مجّرب واكثر الناس غاد نعم: لا يعرف الشوق الإ من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها هذا الولع نتاج الحيوية والطموح، عصر الشباب الذي يحلم كل من فاجأه المشيب أن يعود إلى زهرة شبابه ليدرك ما فاته وليستعيد ملذاته وأنى له ذلك. سعد الجنيدل رحمه الله والشاعر سعد بن ضويان من أولئك الشعراء الذين قضوا فترة شبابهم بين جبلي ثهلان وجبلة مرتع صبا رماح، ولهما ولع بالصيد منذ شبابهما وقد جرى أن اعتلى سعد قمة جبلة فظهر له جبل ثهلان فتذكر طرده الصيد فيه فقال: عدّيت في ضلع كثير الحجارة في مرقب مدهال دغم الخشوم يا زين فيه الصيد تلعب جفاره ومربّضاتٍ دونهن القحوم يا زين فيه الملح عجل مثاره واقفن عجلات تقل حصّنٍ روم أطرب لزعج الدم زين انتثاره جا له على خطو الصفايح رشوم طرده ولع، والاّ ان ما به تجارة الله يلوم اللي لحالي يلوم وقد عاش سعد في القرن الثالث عشر الهجري، وكان له صديق اسمه حسين كان ملازماً له في حله وترحاله، ويفضى كل منهما إلى الآخر بأسراره وتطلعاته. وبينما كانا في جبلة يستريحان وأمامهما جبل ثهلان يطل من بعد تداعت ذكريات سعد مع لداته في ذلك الجبل فقال: يا حسين لاكِنّي على الجمر مبضوع من فقد خلاني وفقدي ربوعي عهدي بهم يوم اول الجيش ممنوع عيّت ذلولي تنثني للمنوع خلّيتها تأخذ مع الحزم قرطوع واسجّها لعيون غروٍ فروعِ إلى قوله: قم سو فنجالٍ، ترى الراس مصدوع صفّه وزلّه عن سريب الخموع فنجالٍ فيه مخومس الكيف مجموع بدلال يشدن الغباسا الوقوع ونجر على الشطات ماهو بمبيوع يا زين حسه والخلايق هجوع نجرٍ دلالة ماو بالصوت مفجوع دنه وخولف له ثلاث رجوع وصف لتقاليد القهوة، ذلك الكيف المتشكل من بن هيل وزعفران وعويدي وزباد، في دلال يشبهها بنوع من طيور الغرانيق في صفها إلى جانب النار، وحولها نجر هاون ثمين لم يعرض للبيع لجودته وحرص صاحبه لاقتنائه، وهو من صفوة المعدن له ترنيم يشد رواد المنتدى لحضوره. وهذا يذكرنا بأن رنين النجر نداء للجيران ودعوة للحضور، أما الخولفة بثلاث فهي دقات استحثاث للمبادرة بالحضور. وفي الدنة والخولفة رمز الدعوة، وقد ألغزوا في النجر: أنشد عن اللي صوروا له منه فيه إلى حث به لازم يلج التنادي اللي يريده من ضميره ويبغيه هوه يجي ماهو معاوز منادي وهذا اللغز أطلقه فتى عندما طلب منه أبوه دعوة الجيران للمنتدى. ثم ينتهي الشاعر إلى الهدف من انشاء القصيدة فيقول: ويا راكبٍ من عندنا نسل مرفوع رقابهن من المطارق خضوع يشدن لصيدٍ باشهب الملح مصيوع راميه تفّاقٍ بملح يروع يلفن خالد ريف اهلهن عن الجوع إذا اتّقت عنهم وجيه التبوع تذكر الشاعر عهود الصبا وأصدقاءه الذين قضى معهم شبابه يطاردون الصيد ويتطارحون الشعر، ويتمتعون بحيوية الشباب فغاب مع الذكرى خلاف فرق بينهم أعد له الشاعر مقدمات العودة اليه مبيّنا لأصفيائه من خلال التمجيد بولعهم الرغبة في تجاوز الخلاف، وقد حدث ما أراد. فبعد تلقيهم أبياته بادروا إليه وأعادوا صفو أيامهم. ولما كان للناس فيما يعشقون مذاهب فتلك ثقافة الصحراء وولع أهلها، ولسكان المدن الساحلية هواهم، ولشباب اليوم هواهم. ولله في خلقه شؤون.