حينما تهم بكتابة رثاء تنتابك أحاسيس ومشاعر لا يعرف كنهها إلا أنت، فكيف إذا كان الرثاء لمدك وجدك وعمك حتماً ستزداد مشاعرك وأحاسيسك، اذ ستقف عند كل محطة من محطاتها وتستدعي ذكرياتها من قعر الدماغ، ولكن هذه سنن الله في خلقه فهم السابقون ونحن اللاحقون، كنت طفلاً صغيراً ألاعب دراجتي ذات الثلاث عجلات في مسقط رأسي ومدفن والدي، أرقب عمي عبد الله ذا القامة المهيبة والوجه المستدير الذي خط الشيب عارضيه وهو قادمٌ من السوق مرتدياً مشلحاً عسليًّا، ينظر إليّ بابتسامة، ويمسح على رأسي بحنو، أرقب تلك الابتسامة عند غروب كل شمس، هو أول من لحق بجدي الشيخ فالح الذي كان قاضياً لمحافظة الزلفي أربعين عاماً ومن ذلك أُطلق على ابنائه وأحفاده أبناء الشيخ وما زال هذا الاسم ملازماً لهم، لحق به عمي قاسم إثر حادثٍ اليم، وقد كان باراً بوالدته براً يُضرب به المثل، رثته وحزنت عليه واحتسبته عند الله وعوضها الله بأولاده خيرا فبروا بها براً يجدونه عند الله تعالى، وكان قد عمل مديراً لتعليم الطائف، كريماً مضيافا يأوي اليه كل من قصد الطائف للدراسة في دار التوحيد أو مرّ بالطائف لأداء الحج والعمرة، كان عديلاً لوالدي حيث تزوجا ابنتا جدي عبدالله الصالح الفرهود أمير مركز علقة بالزلفي، الذي عُرف عنه كرمه الجبلي وبابه المشرع وترديده مقولة الأول: إن رزقنا الله فلنحمب بخلان من رزقنا ترزق طيور كثيرة أما عمي عبدالعزيز فكان رئيساً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنطقة الشرقية وقبلها بمدينة الظهران، واتصف بحسن المعشر، وحسن التعامل، فكان له منهجٌ خاص وطريقة فريدة في الحسبة والاحتساب، وله أسلوبه الخاص في التربية وإعطاء كل ذي حقٍ حقه، كان مقصد الزوار للمنطقة الشرقية ولمن أراد العمل بالشركات هناك لما يتمتع به من علاقات عريضة فكان ثالث اللاحقين بأبيه . رحم الله والدي فقد أخذ العلمُ والفقه والحديث عن والده وتتلمذ على يديه وكان كاتبه، وعمل معلماً بمدرسة الحسن البنّا (مدرسة الأيتام بالرياض) ومن ثم عمل بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية فرع الضمان الاجتماعي بالزلفي وكان إماما لمسجده حتى وفاته، لحقنا به في مدينة الرياض في مطلع الثمانينات في مطلع القرن الماضي، وكان متسامحا واصلا رحمه، هالا باشّاً، يرحم الصغير، ويقدر الكبير، له وصايا وحكم يعلمنا إياها كما يعلمنا الآية من القرآن، يقول مخرج الكلمة الطيبة والخبيثة واحد، وقد تكون حروفهما متشابهة، ولكن أثرهما مختلف فالله الله بالكلمة الطيبة، يقول من يشره يكره أي لا تطلب من أحد أن يعاملك كمعاملتك له أو أن يعطيك حقك الاعتباري، تقول عنه والدتي رحمهما الله لم يعب طعامٌ قط، ولم يكن لعانا ولا طعانا، وقد غسّل والدتي وكفنها وصلى عليها و واراها مدفنها الأخير راضياً عنها داعياً لها بالرحمة، رحم الله والديّ وأسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة، والحديث عن عمي محمد ذو شجون، فقد رافق أخوته إلى جنات النعيم بإذن الله بعد مرض عانى منه كثيراً، عمل بالتجارة فأخلص لها وأخلصت له، وله أسلوب خاص في التعامل التجاري، حنى على أبنائه فأصبحوا كراماً برره، كان مضيافاً كريماً . عمي عبدالرحمن عرفته في الثمانينات عندما انتقلنا الى الرياض حيث لحقنا بوالدي وشقيقي معالي الوالد الشيخ سليمان، كنت ألحظه متأبطاً معاملاته وأوراقه، كان الجو قائظاً حاراً حيث أمارس لعبتي المفضلة أمام منزله مع أقراني اذ كان ابنه الدكتور فالح رفيق طفولتي، تتلمذ العم عبدالرحمن على يد والده وعدد من علماء عصره وعمل معلماً بالمدرسة الابتدائية الاولى بالزلفي حيث درّس الفقه والحديث والقرآن وعلومه وعمل مساعداً لمدير المدرسة فضيلة الشيخ محمد الذييب حتى انتقل الى مدينة جازان حيث عمل بها فترة من الزمن وعاد ليعمل فيما يسمى آن ذاك ببيت المال، فقد كان رحمه الله يحب العلم وأهله، ويجالس العلماء وطلبة العلم، ومن سخائه وكرمه وحبه للعلم وأهله تبرعه بمبلغ مئتي ريال لإنشاء المكتبة الأولى بالزلفي عام 1371ه، عمل بوزارة الداخلية بإدارة التفتيش حتى أُحيل على المعاش، وكان ذا سفرة كريمة مليئة بالخيرات، يكره أن يأكل وحده، نظيف الملبس واللسان، يعتني بمظهره حتى وهو على فراش المرض، زرته قبل وفاته رحمه الله رحمةً واسعة، فكان كما أعرفه بغترته البيضاء وملبسه النظيف ورائحته الزكية، هذا ابي وهؤلاء أصناؤه كانوا فماتوا وهذه سنن الله في خلقه أدوا الخلافة في الأرض وعبدوا الله حق عبادته وأرّثوا الإرث الوافر من العلم والعلماء فهم شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، عزاؤنا للعمة زينب البقية الباقية من رائحة أبي وأخوته سائلاً الله أن يعظم أجرها، والعزاء موصول إلى صديقي ورفيق دربي الأخ الدكتور فالح وأخوته الفضلاء وإلى أخواتي المبجلات بنات عمي الفاضلات وزوجته الكريمة حصه ابنة الشيخ صالح الفارس . رحم الله أبي وأخوته رحمةً واسعة، اللهم أكرم مثواهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس. * يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عم الرجل صنو أبيه)