ثمة أعمال روائية حين تقرأها تصيبك بدوار لذيذ، تهزك، تحررك مما يحيط بك من واقع جامد وتجعلك أسيراً لعلامات الاستفهام التي زرعتها في رأسك، وتطاردك أسئلتها حتى بعد الانتهاء من قراءتها وتجعلك تكتشف أن هناك عوالمَ وتأملاتٍ لم تكن تعرفها لولا تلك الأوراق التي قرأتها، إلا أنه في الجانب الآخر فهناك أعمال روائية تدفعك قسرا إلى تبني الضجر، وتقودك إلى التساؤل: أهذا ما أراد الروائي قوله؟، وأنت تتحسر على الوقت الذي خسرته في قراءتها دون أن تكسب ذلك الوقت في قراءة عمل جيد. يصف همنغواي التجربة الروائية بطريقته الساخرة في قوله: كتابة العمل الأدبي شيءٌ سهل لدرجة أنه من الممكن أن يصيبك بالجنون!، أما فولتير فكان يقرأ ألفي رواية كي يكتب رواية واحدة. إلا أنه محلياً أصبح جزء كبير من الكتابة الروائية عملاً ترفياً، عملاً يساعد فاعلهُ على الشهرة فحسب بعد اختراق التابوهات بشكل غير احترافي!!. في هذا الحوار كشف د. زهير العمري وكيل كلية العلوم والآداب بجامعة نجران بعض القضايا المتعلقة بالروايات السعودية وتناولها بالنقد والتمحيص من خلال إبراز إشكاليات الرواية السعودية؛ ويأتي ذلك استمرارا لجهود النقاد لدفع الحركة الروائية المحلية إلى مسارها الصحيح. * في البداية دكتور زهير ذكرت في أحد حواراتك أن الرواية السعودية تكتفي برصد مشاهد انهيار المثل والقيم وأنها قامت باستباحة فروض اجتماعية وأخلاقية لكن في المقابل ألا ترى أن هذا الوصف يخضع الرواية للمحاكمات الأخلاقية خاصة وأن الرواية ليست رؤية مثالية للواقع بل على الرواية أن تضع المجتمع وجها لوجه أمام سلبياته وتصوير واقعه كما هو دون تجميل أو تقبيح إضافة إلى أن الشخصيات الروائية تجري حرة بين يدي الروائي بدون قيود. - لا شك أننا لا نحاكم الروائي أخلاقيا عما يورده من مشاهد في نصه؛ لأن الحياة حافلة بالأخلاق الحسنة والسيئة، وكذلك هي الرواية لا بد أن ترصد مواطن القبح والحسن في الأخلاق والحياة وتصورها بدقة وفق ما يتطلبه النص الروائي، ولكن عندما يفرط الروائي في خلق المشاهد غير الأخلاقية، وتصبح قصداً في عمله وغاية، أو أن يحاول من دون مسوغ أن يخلق لها وجودا في عمله الروائي ويستطرد في التعمق في سرد مشاهدها دون مبرر موضوعي أو فني هنا نحاكمه؛ لأنه يشوه النص ويحوله من نص أدبي إلى نص غير أخلاقي. إنني لا أحاكم النص الروائي في أطروحاتي النقدية السابقة بقدر ما أحاول أن أستقرئ جانبا من مشكلات الكتابة الروائية خلال السنوات العشر الأخيرة، ولا أنكر أن هناك مفارقات وتحولات عدة حدثت في واقعنا بالتوازي مع ما كتب روائيا؛ لذلك تفاقمت الهوة بين الواقع والنص الروائي. وأؤكد في هذا السياق أن الرواية العربية ابتعدت عن الفعل والوصف والاستعمالات الرمزية إلى نقل المعيش اليومي فقط، حتى بدا لي أن الواقع والرواية نقيضان لا يمكن أن يلتقيا، ولذلك فالرواية كثيرا ما تثير تصور جدل موضوعي غير مسوغ؛ فهي تسجل الواقع فقط دون أن تساهم في النهوض به. * يقول الروائي "ماريو باراغاس" : إن الأدب هو أفضل ما تم اختراعه من أجل الوقاية من التعاسة " كونه وسيلة تعبيرية تستوعب آمال الإنسان ومخاوفه وتعقيداته، والرواية تقف على عرش هذه الأجناس الأدبية. برأيك دكتور هل استطاعت الرواية السعودية أن تشبع احتياجات القارئ السعودي النفسية والاجتماعية من خلال تصوير أحلامه وهمومه؟ - إن أغلب كتّاب الرواية في السعودية لا يكتبون عن واقعهم، ولا عن هموم مجتمعهم، ولا عن احتياجات الإنسان وأحلامه ومخاوفه؛ فلديهم رؤية أحادية وثيمة واحدة، وموضوع واحد ألا وهو موضوع "المرأة"، حتى أصبح يجوز لنا أن نصف الرواية السعودية بأنها نسائية بالدرجة الأولى في مضامينها ومشاهدها، علما بأن الرواية السعودية أهملت موضوعات تاريخية وقضايا سياسية ووطنية وفكرية مهمة؛ وقراءة رواية سعودية واحدة أو عدد قليل من الروايات تكفي لأن تعطيك رأيا فنيا متكاملا عن المشهد الروائي السعودي. وبعض الكتاب الروائيين السعوديين - وخصوصا الشباب- كان يراهن على تناوله للمحظورات المجتمعية بأن يواري ضعف أدواته اللغوية والسردية، ويحقق له شهرة وذيوعاً، وكان ذلك مقبولا في بداية موجة الروايات السعودية منذ عام 2005م التي كان بمجرد تناولها للمحظورات المجتمعية يعد نجاحا روائيا لكاتبها، إلا أنه في الآونة الأخيرة بات هذا الأمر مرفوضا؛ لكون هذه الموضوعات غدت ممجوجة ومستهلكة، وأصبح يلفظها القارئ؛ لكونها تقدم بطريقة تفتقر إلى العمق، وخالية من بواعث الدهشة، ولن يتقبل عرض هذه الموضوعات إلا إذا كان عرضها عميقا وذا رؤية موضوعية منطقية، وبأدوات فنية وسردية متميزة. * تتجنب الرواية المحلية التصدي للأسئلة الفلسفية الكبرى كسؤال الخير والشر وقضايا الإنسان المصيرية التي من المفترض أن تؤرق كل كاتب ما جعل الكثير من النتاج الروائي المحلي يفتقر إلى العمق الفلسفي والوجودي. كيف تقرأ ذلك؟ وهل يدل ذلك على هشاشة الخلفية القرائية للروائي السعودي؟ - الرواية السعودية -إذا استثنينا بعض الأعمال المميزة وهي قليلة- نجدها رواية سطحية، تشكو من اختلال واضح في بنيتها وهويتها؛ وتفتقر إلى الرؤى الفلسفية المعمقة حول مسألة الوجود والفناء، ومناجاة الذات، وحوار الآخر، وإبراز الطقوس الدينية، والمعتقدات المأثورة، وكل ما عرضته الرواية السعودية من هذه الرؤى لم تكُ فيه قادرة على تشعيب الأسئلة، والاستقصاء، والحوار، والتأمل. ولا يمكن أن نغفل أن الروائي السعودي فشل في أن يكتب عملاً روائيا فلسفياً ضخماً على غرار الأعمال الراوئية الخالدة عن أعظم مكانين مقدسين في العالم أرض الرسالة، ومنبع النبوة، يستجلي عظمتها الدينية والتاريخية ويبرز فيهما جوهر الإسلام وعالميته، ويعد تناول الروائي السعودي لهذين المكانين تناولاً ضعيفاً وهشاً ولا يوازي وجودهما في وطنه، وكأنه لا يجيد أن يكتب إلا عن أماكن خارج وطنه؛ فهو لا يرى في وطنه مكانا جميلاً يغري للكتابة عنه، بل إن الروايات التي جرت وقائعها في لندن والقاهرة تفوق الروايات التي تناولت مكة والمدينة، أيضا يمكنني القول إن الرواية السعودية أهملت الأحداث السياسية التي مرت بها البلاد من مثل: حروب الخليج، والمناوشات السياسية الخارجية، ويمكن أن نصف تناول الرواية السعودية لتلك الأحداث بأنه كان في بعض الأعمال الروائية تناولا خجولاً، وفي أغلبه كان سطحيا وهشاً، ولا يعدو كونه تسجيلا تاريخيا لمشاهد تلك الأحداث دون وعي بأبعادها وآثارها على جميع الأصعدة المختلفة، ولا شك أن الخلفية القرائية الضعيفة لدى أغلب كتاب الرواية السعودية الشباب، وكذلك حداثة تجربتهم، وضعف أدواتهم السردية أدى إلى كتاباتهم عن حياتهم الشخصية وانكفائهم على ذواتهم واحتياجاتهم الخاصة؛ ولذلك خلت الرواية السعودية من الموضوعات الكبرى، ومن المضامين الفلسفية التي تبحث في أسئلة الحياة والموت.