لا يخلو أي بلد أو مجموعة من شخص لديه مواهب خاصة وأكثر من غيره رؤية وخبرة وتجارب، وقد يرجع له أحيانا كمستشار في بعض الأمور، ويحكم فيما يراه بعلم وبرأي ويعتبر فصلا عندما يحتار البقية في بعض الأمور. هناك مثل هذا المستشار ولكنه تحت مسمى معروف لدى أهل البادية في زمن الأمس، حيث الحاجة ماسة لرأي متزن وقول فصل ومنع شرارة الخلافات قبل أن تتطور، هذا الشخص يسمى (العارفة). حيثك غلام ما تعد إلا الصدق أيضاً وحكي الكذب ما تشقا به فالعارفة رجل له معرفة ولديه علم بالأحوال التي يفصل فيها بسبب تجاربه العديدة، وهذا العلم نوعان: خبرة متراكمة وأيضا ما يلزم معرفته وتعلمه من أمور الدين، وأما بعد النظر والمعرفة والفطنة وقوة الملاحظة فجلها تأتي من خلال التدرب عليها، كما يضاف لها مواهب خاصة مثل مصداقية الحدس أو التوقع. ولدى العارفة قوة ملاحظة وذاكرة وتذكر للعديد من الأحداث ومسبباتها، ما يتميز بحسن التصرف والهدوء والثقة في الطرائق التي يتبعها في حل المشكلات، واستحداث طرق جديدة لحل القضايا التي تعرض عليه. وكما نقول داعية من الدعوة، وراوية من الرواية، وداهية من الدهاء، نقول عارفة من المعرفة، وهي اشتقاقات تؤكد المبالغة في مجال يختص به بعض الرجال وكذلك النساء على حد سواء فالمرأة ايضا تكون عالمة وداعية وراوية وشاعرة.. الخ. في القبائل القديمة سواء بادية أو حاضرة، يوجد عدد وإن كان ليس بالكثير، ممن لديه مثل تلك المواهب، يتصدر مجالس القضاء والفصل في المنازعات ويتولى شؤون فك المنازعات، أو يرجع له فيما أشكل تارة وتارة وإن لم يتول زعامة أو مهمة إدارية في مجتمعه. ومع أنها موهبة ومكاسب كبيرة من الخبرات والمعرفة إلا أنه لا قيمة لها مجتمعيا حتى يعترف بها المجتمع نفسه، عند ذلك تحال لصاحبها القضايا البسيطة ثم الكبيرة حتى يشتهر فيكون عارفة القبيلة أو الجماعة، وفي كل المجتمعات يوجد من تتوفر فيه مثل هذه الكفاءات ولكن نظرا لأنها خبرات فردية خفية ولم تختبر ولم يتم تجربتها فإن الاعتماد عليها يبقى محصورا، وتبقى تلك المواهب حبيسة عند أصحابها. ونحن نعلم أن المعرفة والعلم من أهم سمات القيادات الإدارية والدينية، لهذا يتولى منصب رئيس أو قائد العشيرة أو شيخها من تتوفر فيه صفات كثيرة ومنها المعرفة والخبرة والتجارب بالإضافة إلى إلمامه التام بمجموعة الأعراف التي تكون سائدة في المحيط المجتمعي وأيضا الأحقية التاريخية أحيانا، وهي عادة تتركز في العائلة أو الأسرة التي مارست أعمالاً فيها تجارب أكسبت أفرادها خبرات مميزة. ومهمة العارفة كونه قاضيا ويفصل في خصومة واضحة يعد أمراً سهلاً، وكذلك الخلافات التي تتكرر على المراعي والمياه والمشادات وما شابهها، فهو يعتمد في الفصل على علم بين يشابهه في ذلك كل من لديه علم في هذا ولا يعتبر الفصل فيها ميزة، لكن تأتي بعض المواقف ليس فيها وضوح رؤية، وتحتاج إلى اجتهاد في الوسائل والأساليب واستدعاء الكثير من الخبرات والفطنة، وقد يصل في النهاية إلى نتيجة مؤكدة وقد لا يصل، لكن انفكاك الخصومة ونهاية المشكلة التي تحصل بين الأطراف تنتهي بحكمه حتى ولو لم تتم القناعة، فقول العارفة وحكمه يرضى به كل الأطراف. ولعل مسمى العارفة يختص بالبادية على وجه التحديد، وليس في الحضر الذي له أساليبه التي لا تبتعد كثيرا من حيث التقاضي. ومن الممتع حقيقة تتبع طريقة العارفة في حل المشكلات التي انتهت على يديه، وتم الفصل فيها بين الخصوم، خاصة قضايا يفقد فيها الأدلة وتغيب فيها الحجج وتظهر محيرة. ولو أردنا سرد ما يقوم به العارفة واستعرضنا مواقف بعضهم فإن السرد يطول ولكن نورد في هذه الحلقة من المقال موقفاً من المواقف استطاع العارفة أن يجد حلا من خلال فكرة طبقها وخبرة استند عليها. ففي قضية حصلت بين متنازعين كان الخلاف على ولد ناقة (حوار) كل يدعي أنه ولد لناقته. وخلاف مثل هذا ليس بالسهل في البادية، فقد يحصل نزاع يتطور أحيانا إلى قتال أو عداء دائم، فالنار تأتي من مستصغر الشرر، ولا يهمل أهل البادية خلافاتهم ولو كانت صغيرة خوفا من تطورها فيما بعد، بل يفصلون فيها وتنتهي. فالقضية هذه أن ناقتين كانتا في الربيع وقد غابتا عن المضارب فترة وكل من الناقتين لقحة (أي تحمل في بطنها ولد) وينتظر ولادتها، وفي فترة الغياب الربيعي هذا ولدت إحداهما ومات ولدها أو تعرض لأمر ما أو الضياع، المهم أنه فقد، بينما ولدت الثانية وسلم وبقي هذا الولد مع الناقتين الاثنتين طيلة فترة ضياعهما، وكل منهما ألفته المعروف أن الأغنام أو النياق تروم الولد وقت ولادته، أي تشمه وتقترب منه وتحنو عليه فتألفه سواء ولدها أو غيره وهو ألفهما وصارت كل واحدة من الناقتين كأنها أمه الأصلية من شدة تعلقهما به وتعلقه هو بهما. ولعله كان يرضع منهما. وعندما عادت الناقتان ومعهما ولد واحد ادعى كل صاحب ناقة أنه ولد لناقته، ومن الصعب التنازل عنه. لم يجدوا حلا لهذه الخصومة سوى رأي العارفة وحكمه في القضية. هنا تبرز أهمية الفكرة والفطنة وبعد النظر والتجربة ومحاولة إيجاد حل سريع، حيث استلم القضية ووعد خيرا، وذهب بالناقتين والولد إلى المرعى، والناقتان عطاش لم يردن الماء، ثم أوردهن الماء مع بقية الابل والولد مقيد في المرعى، فامتنعن من الورود مرة ومرتين وثلاث، كلما أردن الذهاب عنه ولم يتبعهن رجعن إليه وفي المرة الرابعة لم تصبر إحداهن على العطش، فتركت الولد في مكانه ووردت الماء بينما بقيت الأخرى عند الولد لم تستطع تركه رغم عطشها الشديد، فعرف أنها أمه الحقيقية، وحكم بأن الولد لهذه الناقة. وهذا الحكم ليس من السهل الوصول إليه بمعلومة مدونة مسبقا ولكن نتيجة تجارب عديدة وخبرة ومحاولة تجريب حلول توصل إلى كشف الغامض من القضايا. وهو الدور الذي يقوم به العارفة في مجتمعه. ونختم هذه قصة قديمة يذكر أنها جرت على رجلين توافقا بالبر وكان طريقهما واحدا وتخاويا لأن هدفهما واتجاههما واحد ايضاً وهما في أثناء مسيرهما حدث بينهما نزاع فأحدهما يقول ان البنات أفضل من الذلول والجيش, والاخر يقول ان الجيش أفضل من البنات. فاتفقوا على أن يعرضوا قضيتهم على العارفة الضريغط ولما وصلوه طلب من كل واحد وجهة نظره بأبيات من الشعر وأخيراً حكم للذي قال انه لولا الله ثم النساء ما جاء من يركب الجيش لأنهن يلدن الفرسان الشجعان والطيب والرديء, والجيش تحتاج رجال يركبونها. يقول الاول: أنشدك بالله يالضريغط نشده حيثك تخلص قالة تبلى به حيثك غلام ما تعد الا الصدق أيضاً وحكي الكذب ما تشقا به أي الركاب امتيهات بالخلا اللي تجيب من الخلا غيابه وأي البنات العطر بايام الرخا اللي يشققن النهود ثيابه واللي تفز وراعيه ماكلمه يعجز يمينه يقضب المغرابه واللي توصلك الى نشفن القرب يعجز يحول لو وقع ميدابه والى جابته عند العذارا خلته قعد يصنجر هو ويا أحبابه قال الثاني: أنشدك بالله يالضريغط نشده حيثك تخلص قالة تبلا به أي البنات العطر بايام الشتا اياتهن واي الخلا وذيابه منومات الساهر أرقاب المها كن العسل يدلك بروس أنيابه واقول ان الركاب متيهات بالخلا ولولا العذارا عازنا ركابه هن اللي يجيبن الفهيم أمثالك غوش تفك الخيل من طلابه واطلب من الله حجتي مقبوله وحجتك يالصياد ينلد بابه قال (عز الله أنه انلد بابه). وأصبح الحق مع الثاني!