توشك الشمس على الغروب في التاسع والعشرين من شهر شعبان مؤذنةً برحيل اليوم، ومازال عدد من أصحاب القرية مجتمعين من أجل اللحظة الحاسمة، وهي الظفر برؤية هلال شهر رمضان عند غروب الشمس، الكل يطلق ناظريه، يقفون على مكان مرتفع لا يحجبهم عن تلك الغاية شيء، فالجميع ميمم وجهه إلى جهة غروب الشمس، لعله يحظى برؤية الهلال، فما هي إلاّ دقائق معدودة يظهر فيها الهلال ومن ثم يغيب سريعاً، تلك هي حال الناس منذ بدء فرض شهر الصوم إلى يومنا هذا في طريقة التحقق من دخول هذا الشهر المبارك، الذي سيطل علينا ببركته بعد بضعة أيام، فالاعتبار بدخوله هي رؤية هلاله أو إكمال شهر شعبان ثلاثين يوماً في حال تعذر رؤيته. «البرقية» تصل إلى «أمير القرية» ليُخبر الناس في المسجد مع إرسال «المناديب» أو إشعال النار في الجبال أو إطلاق النار ابتهاجاً وعندما يقترب شهر رمضان المبارك من الدخول فإن هناك من يتحرى ذلك في اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان في عمل تطوعي وإحياء للسنة، وذلك من خلال ترقب رؤية الهلال عند غروب شمس هذا اليوم، فإذا ما ظهر فيتأكد دخول شهر رمضان، وإن تعذرت الرؤية فان الغد هو المكمل للثلاثين من شهر شعبان، والترائي سنة في الإسلام، فقد كان بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- يؤدون هذه المهمة في مثل هذا الوقت بالذات، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً». وانبرى العديد من الناس -خاصةً المهتمين- إلى التطوع في هذا العمل، إلاّ أنه ينبغي توافر عدد من الشروط لمن يؤدي هذه المهمة، من أهمها الأمانة وحدة البصر، كما يجب أن يكون الراصد في مكان الرصد الذي اتخذه موقعاً له قبل غروب الشمس بساعة تقريباً، وذلك في التاسع والعشرين من شعبان، وأن يكون الراصد ملماً بعلم الفلك. جيل اليوم لا ينسى «غرة 1404ه» حينما ظهر «هلال شوال» يوم الثامن والعشرين من رمضان.. وإذاعة الخبر ليلاً لجنة الرؤية حالياً وعلى الرغم من تطور أجهزة الرصد بجميع أنواعها، إلاّ أن المحكمة العليا حالياً لا تأخذ إلاّ بالرؤية مع الشهود الذين عُرف عنهم الصلاح والاستقامة، وذلك بحضور لجنة شرعية لضبط الرؤية، ونظراً لأهمية توثيق دخول شهر رمضان المبارك فإن المحكمة العليا تصدر سنوياً بياناً تدعو فيه عموم المسلمين في البلاد إلى تحري رؤية هلال شهر رمضان المبارك ويذيل البيان بالعبارة التالية: «وترجو المحكمة العليا ممن يراه إبلاغ أقرب محكمة إليه وتسجيل شهادته لديها أو إبلاغ الجهة التابعة لإمارة المنطقة في بلده إذا لم يكن في البلد قاض لتسهل له مهمة «حوطة سدير» و«الحريق» و«شقراء» أكثر مواقع التحري.. و«عبدالله الخضيري» الأشهر الوصول لأقرب محكمة، كما ترجو المحكمة الاهتمام بترائي الهلال والاحتساب في ذلك لما فيه من التعاون على البر والتقوى»، فينبري المهتمون إلى أخذ مواقعهم في آخر يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان وقبيل الغروب في مكان مرتفع غير محجوب الرؤية، ويتطلعون إلى رؤيته، وبعد أن يستطيع شخص رؤيته فإنه على الفور يقوم بإبلاغ أقرب محكمة شرعية حيث تسجل شهادته ويتم الرفع إلى المحكمة العليا التي تكون جلستها في هذا الوقت منعقدة لتلقي مثل هذا الخبر ومن ثم يتم الرفع إلى الديوان الملكي الذي يعلن ذلك في وسائل الإعلام المختلفة، ويكتفى برؤية شخص واحد لهلال شهر رمضان، أمّا في رؤية هلال شهر شوال فلابد من أن يرى الهلال اثنان. المسجد في رمضان عامر بتلاوة القرآن إبلاغ الناس قديماً عندما يثبت دخول شهر رمضان المبارك بالرؤية في آخر يوم من شهر شعبان فإن الإعلان يبث بعد صلاة المغرب، وفي زمن مضى لم يكن هناك وسائل إعلام ميسرة كما هو عليه الحال اليوم ك»الراديو» و»التلفاز»، بل كانت الوسيلة الوحيدة في ذلك الزمن هي البرقية التي ترسل إلى جميع أرجاء البلاد، وهذه المراكز التي فيها البرقية قليلة فهي تتركز في المناطق الكبرى، فإذا ما استقبل المركز البرقية فإنه على الفور يسلمها إلى أمير البلدة، والذي يؤدي بدوره بإعلام الناس بعد أداء صلاة العشاء في المسجد، بينما يؤدي «المناديب» -أي مراسيل من مركز الإمارة- بالسير إلى القرى التابعة للبلدة لإعلام الناس بدخول الشهر وحين يصلهم الخبر من أمير البلدة عند وصول البرقية ينتشر الخبر في الجوامع، ومن ثم يخرج بعض الناس إلى المزارع القريبة وأماكن تجمع البادية ويطرقون على «التنك» -علب الصفيح الكبيرة- في إشارة إلى لفت سكانها بقدوم شهر رمضان ولتبليغهم الخبر بدخوله، وقد يتم إطلاق الرصاص من «البنادق» فرحاً بدخول شهر رمضان وإسماع أهالي المناطق البعيدة لإعلامهم بدخول الشهر، وفي بعض المناطق التي تغلب على طبيعتها الوعورة كالجبال المرتفعة ومسالك الأودية فإن الناس يعمدون إلى إشعال النار في رؤوس الجبال كعلامة على دخول الشهر ليراها سكان تلك المناطق الوعرة من بعيد، وربما ينام بعض الناس بعد صلاة العشاء ولم يصله خبر دخول الشهر فيصبح وهو لم يعقد الصوم لعدم معرفته بدخول الشهر ولا يعرف إلاّ إذا ذهب إلى السوق أو لصلاة الظهر فيمسك من حينه ويتم صومه. أمسك بعد الخبر وشهدت العديد من المحافظات في مختلف مناطق المملكة تسابقاً من أجل رؤية هلال شهر رمضان ومن أجل ذلك كونت عدد من اللجان في تلك المحافظات تحت مسمى «لجنة ترائي هلال شهر رمضان»، حيث تضم اللجنة رئيس المحكمة الشرعية في المحافظة وعدد من المترائين المشهورين برؤية الهلال، بحيث تمارس اللجنة عملها لتثبيت رؤية الهلال، وإن ثبت رصده يتم مخاطبة المجلس الأعلى للقضاء -المحكمة العليا حالياً- من موقع الرصد، ومن ثم يذاع عبر وسائل الإعلام. «التلسكوب» لم يُلغ «العين المجردة» من رؤية هلال رمضان قبل الغروب بلحظات قليلة وقد وردت العديد من القصص قديماً قبل توفر وسائل الإعلام عن أناس فيما مضى أصبحوا مفطرين ومن ثم علموا نصف النهار بدخول رمضان فأمسكوا من وقتهم وأتموا الصيام، ومن هذه القصص الطريفة أن أحد كبار السن استيقظ صباحاً فوجد امرأته قد أعدت القهوة و»القدوع» -التمر- فدعته إلى مشاركتها في شرب القهوة، فقال: «سوف أذهب إلى السوق وأحضر ما يحتاجه البيت وأحضر لأشرب معك القهوة»، ولما ذهب إلى السوق وجد معظمه مغلق، ولما سأل أحد الباعة أجابه بأن اليوم هو الأول من رمضان والناس ممسكون وصائمون، فأمسك من ساعته وعقد الصوم، ثم رجع إلى منزله ووجد امرأته لا زالت تحتسي القهوة وتأكل من خبز «التنور» الذي قد أعدته، فقال لها: «أمسكي، فاليوم هو اليوم الأول من رمضان»، فتركت الأكل والشرب وقالت لزوجها: «لقد دعوتك إلى مشاركتي القهوة فأبيت، ولكن لو سمعت كلامي لكنت الآن شبعان ولكن الله أطعمني وأسقاني». خوف من العين واشتهر بعض الناس قديماً بحدة النظر حتى أنهم ليقولوا عنه: «فلان يرى النجوم في عز الظهر»، كناية عن حدة بصره، وقد حبا الله هؤلاء حدة في البصر فيستطيعون رؤية الشيء البعيد وكأنه على بعد أمتار منهم، ويؤيد ذلك قصة شخصين كانا بالقرب من سور أحد القرى الخارجي فلمحا شخصاً قادماً من بعيد بمسافة يقول عنها الرواة أنها تتجاوز الخمسة كيلو مترات، فشاهدا هذا الرجل يقف فجأة ويجلس على الأرض فقال الأول: «ماذا تظنه يفعل؟»، فرد عليه: «لقد جلس يخرج شوكة من قدمه وطأها»، فقال له صاحبه: «لا بل جلس ليصلح نعله الذي انقطع وهو يمشي»، وكان كل واحد يصر على أنه على صواب، فقال أحدهم للآخر: «تمهل فها هو قادم إلى القرية، وعندما يصل فسوف نسأله عن ذلك، وسنرى من هو المخطئ من المصيب»، وبالفعل انتظرا وقتاً طويلاً حتى قدم عليهم وسلم وكانا ينتظرانه على أحر من الجمر فردا عليه السلام وبادراه بالسؤال عن السبب الذي جعله يتوقف فجأة ويجلس برهة ثم استمر في مشيه، فقال: «لقد انقطعت إحدى نعلي وجلست أصلحها»، فكان الصواب ما قاله الثاني، وتعجب ذلك الرجل من شدة ملاحظتهما له وبينه وبينهما مسافة طويلة جداً حتى أنه لم يبصرهما إلاّ من مسافة قريبة من القرية لما وصل إلى طرف سورها، لكن البعض من هؤلاء المشهورين بحدة البصر لا يفصحون عن ذلك خوفاً من العين، فالعين كما يقولون حق. «أبو طبيلة» يوقظ أهل الحارة لتناول السحور وحدث أن رأى بعض الناس الهلال، لكنه كان يخشى من الإثم إن هو كتم ذلك، فجاء إلى القرية بعد غروب الشمس حيث رآه وهو في البرية يجمع الحشائش لماشيته وقال للناس في مجلس القرية: «لقد شوهد هلال رمضان»، فقال الناس له: «ومن الذي رآه؟»، فتلعثم وخاف أن يفصح عن نفسه فقال على الفور: «لقد رآه الشاوي» -أي من يعمل بمهمة رعي أغنام القرية بأجرة معينة، وجاء آخر وشهد برؤيته أيضاً، أمّا الراعي فقد جاء من المرعى وقد كف بصره حيث أن «عيناً» من بعض الحاضرين أصابته فذهبت ببصره، فقال الذي رآه أولاً هذا ما خشيت منه. قضاء الغرة وحين لا يستطيع أحد أن يرى هلال رمضان عند غروب يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان فإن اليوم التالي يكون هو المتمم للثلاثين من شهر شعبان، وبعده يكون الأول من رمضان، وبذلك يصوم الناس شهر رمضان وقد يكمل الشهر ثلاثين يوماً أو تسعة وعشرين يوماً، لكن إن حدث خطأ في دخول شهر رمضان بحيث أن الهلال لم يرَ وكان اليوم الأول من رمضان متمماً لشهر شعبان فإن شهر رمضان إن لم يكن ثلاثين يوماً فإن هلال شهر شوال إذا رئي صار الناس قد صاموا ثمانية وعشرين يوماً فقط، وهذا ما يطلق الناس عليه «غرة»، فيقولون علينا «غرة» ويجب على الناس أن يصوموا جميعاً يوماً كقضاء عن اليوم الذي أفطروه في أول الشهر، ويكون اليوم التاسع والعشرون في الحساب هو أول يوم من أيام شهر شوال ويكون عيداً. ولعل آخر غرة شهدتها البلاد هي في عام 1404ه حينما رئي هلال شوال في يوم الثامن والعشرين من شهر رمضان ولم يتم إذاعة الخبر إلاّ في وقت متأخر من الليل، حيث كان الناس يؤدون صلاة التراويح في ساعات الفجر الصباح الأولى وبثت وسائل الإعلام الخبر الساعة الواحدة صباحاً، وتوجه العديد من الصغار إلى المساجد التي كانت تصلي صلاة التهجد وأخبروا الإمام والمصلين بأن الغد هو عيد الفطر، بينما نال العديد منهم التوبيخ من كبار السن ولم يصدقوا حتى جاء أكثر من شخص يخبرون بذلك فانصرف الناس إلى منازلهم والبعض منهم قد تسحر قبل الصلاة ومنهم من جهز السحور ليأكله بعد صلاة التهجد، وقد صدر بيان من مجلس القضاء الأعلى (سابقاً) ومن الديوان الملكي يفيد بأنه قد حصل غرة في دخول الشهر حيث لم يتمكن أحد من رؤية الهلال وعلى الجميع صيام يوم واحد قضاءً، ولازال العديد من الناس يتذكر ذلك اليوم الذي أحدث ربكة كبيرة حيث لم يستعد الناس للعيد، بل أن بعضاً منهم استيقظ لصلاة الفجر وهو ممسك، فأبلغ بأن اليوم هو العيد فعاد إلى بيته وهو لا يكاد يصدق فلم يصم إلاّ ثمانية وعشرين يوماً فقط فكيف حدث هذا؟. استعداد المساجد بعد أن تثبت رؤية هلال رمضان يكون الناس قد أعدوا العدة لذلك، وقد سبقوا ذلك بأيام عبر الاعتناء بنظافة المساجد وخاصة الجوامع التي يصلى فيها التراويح، حيث يكنس الجماعة المسجد وتُستبدل تربته القديمة برمل جديد ونظيف، وترى الكل يشارك في ذلك صغاراً وكباراً يحملون الرمل من المسجد ويخرجونه بعيداً ومن ثم يأتون برمل جديد ويفرش به، ثم رشّه وفرش شيء من الحصر التي تصنع من سعف النخل، ويتعهد عدد من المحتسبين بالمصاحف التي كانت قليلة ونادرة، حيث إنها مخطوطة باليد وليست مطبوعة منذ قرن من الزمان تقريباً، فينظفونها ويحيكون ما تساقطت أوراقه ويحبكون خياطته، والبعض يعمل بخياطة «بقشة» وهي كيس بها حبال يربط بها المصحف لحفظه من الأرضة والغبار، ومن الاستعدادات التي يحظى بها المسجد هي تهيئة أماكن حفظ الماء البارد المعد للشرب، كالزير والقِرب، وأخيراً يتم تنظيف السرج ويُتفقد زيت الوقود وهو من «الودك». أجهزة وتلسكوبات وظهر في الآونة الأخيرة العديد من المحتسبين الذين سخروا أنفسهم في ترائي الهلال، وتطبيقاً للسنة، واشتهرت العديد من البلدان على طول المملكة وعرضها بمهارة هؤلاء في الرؤية، وتم تسجيل شهاداتهم شرعاً بحضور لجنة شرعية من محكمة المدينة التي يتواجدون فيها، ومن المناطق التي تشتهر بالتحري ورؤية الهلال مدينة حوطة سدير ومحافظة شقراء ومحافظة الحريق، ومن أشهر المهتمين برؤية الهلال والذي تمكن من ذلك لعدة مرات هو الرائي «عبدالله بن محمد بن فارس الخضيري» -المعلم بثانوية حوطة سدير- الذي قال في أكثر من لقاء ومحاضرة: أنه بدأ هذا العمل التطوعي تقمصاً لشخصية والده -رحمه الله- فهو الذي شجعه على ذلك، كما أنه بدأ بالرصد المعلن عام 1404ه، مضيفاً أنه يخرج بصحبته لرؤية الأهلة الشرعية لجنة لتثبيت رؤية الهلال، وإن ثبت رصده يتم مخاطبة مجلس القضاء الأعلى (سابقاً- المحكمة العليا حالياً) من موقع الرصد ومن ثم يذاع عبر وسائل الإعلام، موضحاً أنه ليس هناك مكان محدد للرؤية، لكن الأنسب هي حوطة سدير، حيث إنها منطقة مرتفعة عن سطح البحر وخالية من المصانع والعوالق والتلوث البيئي، ودائماً ما تكون مناسبة للرصد، مشيراً إلى أنه يتم الاستعانة في أجهزة و»تلسكوبات» ومناظير متطورة منذ 1415ه، وهي مجازة من الشيخ «عبدالعزيز بن باز» -رحمه الله-، ذاكراً أن التنظيم الجديد لرصد الأهلة زوَّد المحاكم بأجهزة و»تلسكوبات» ومناظير للرصد. وجبة إفطار رمضان تجمع الأهل والأقارب على مائدة من الحب والألفة لحظات السحور تترك السعادة على الأطفال البرقية كانت الوسيلة الوحيدة قديماً لإرسال خبر الرؤية للمناطق أمير القرية يتولى مسؤولية إيصال خبر دخول شهر رمضان إلى الأهالي