قلت ذات رأي خاص إن ( قصيدة النثر كبسولة مضغوطة لم يكتب على غلاف علبتها الأنيقة دواعي الاستعمال ولا حتى الأعراض الجانبية ) لكنني حتما لم أجرؤ يومًا على تقديمها لأحدٍ كوصفةٍ شعرية وأنا الأعلم بأن القصيدة الحقيقية لن نعرفها قبل أن نلتقيها ولن نعرّف بها إلا بحضورها... لا أرى الشعر إلا حيث يلقاه المتلقّي ولو بعد حين مموسقًا جاء أو منثورًا فهو لا يكون ولا يتشكّل إلا من خلال تنقّله بيننا على مرّ العصور والتواريخ وهذا تحديدًا ما يفسّر خلود عدد محدود من الشعراء في ذاكرة التاريخ على الرغم من أن بعضهم لم يدخل بوابة الحضور هذه إلا بقصيدة واحدة، وعلى الرغم من يقيننا الدائم من أننا أمة شعر في كل مكانٍ وزمان ولهذا سنتخيل أن هناك ملايين الشعراء في تاريخنا لم يتمكنوا من دخول بوابة التاريخ حينما لم يقدّموا لنا قصائد تعبر بهم كل هذا التاريخ الشعري الضخم، وبالتالي تبدو الإقصائية التي يمارسها البعض أمرًا مستغربا عندي دائما حينما آمنتُ من أن الكتابة أثر أخلد من حياة وأن كل ما يُكتب يظلُّ دائما في ذمّة التاريخ ... لستُ مناصرًا لشكلٍ شعري على آخر إلا أنني كغيري فوجئت برأي ( كبيرنا الذي علمنا الحداثة) والدنا الشاعر محمد العلي الذي صرّح في حوار له مع صحيفة اليوم بإخراجه لقصيدة النثر من ملّة الشعر حينما قال نصا: (النثر لون أدبي، إذا بلعنا الصبر نقول إنه لون من ألوان الفنّ، الشعر يجب أن يكون ذا موسيقى خارجية لا داخلية، مشكلتها في تسميتها قصيدة، لمَ لا نسميها لونا أدبيا لكن ليست قصيدة.) وهذا الرأي يعيدنا بشكل أو بآخر إلى ذلك التعريف البائس للشعر والذي لايزال مقرّرا على طلاب المرحلة الثانوية: (الشعر كلام موزون مقفى وله معنى) وهو حتما معنى قاصر جدا عن مفهوم الشعر المعاصر.. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نخرج قصيدة النثر من دائرة الشعر وهي قصيدة العصر.. ربما وُلِدت من رحم غير عربية كما أحب أن أتصوّر حينما اكتشفنا مصادفة من خلال ترجماتنا المتطورة لقصائد غير عربية أن الشعر أكثر من الإيقاع والبحور وأن الإيقاع ذاته يقتطع من شعريتنا وعيا لا يليق باللحظة الشعرية التي تختطُّ الرؤيا لغةً دون التنبّه لضوابط الإيقاع التي غالبا تستلزم مالا يُلزم في عصرٍ لا يحتمل الحشو ولا يفترض الرقص حين يختط الرؤيا... كل هذا أقوله عن قصيدة النثر وأنا الذي انتصرتُ دائما لقصيدة التفعيلة (المدوّرة) تحديدًا حين استطاعت بدهشة كبيرة أن تختطّ ذلك التماهي الكبير بين الإيقاع والمعنى وفق رؤية القصيدة إيقاعا لا وفق رؤية النظرية التفعيلية وهذا ما فعله محمود درويش فقدّم لنا قصيدة الرؤيا مموسقة تدهشنا في كل حالٍ حتى بإيقاعها...!