في اللحظة التي اختاروا فيها ، أن يجدوا له اسماً ملائماً، اقترحت جدته "جابرييل" وحين لاحظوا أنه الأخ الكبير لأحد عشر أخا وأختا لذا احتفلت به "أراكاتاكا" فأطلقوا عليه اسم "جابو". في ذلك الوقت لم يكن أحد يتوقع في تلك المدينة التى نبذها الله، والتى ترقد على ساحل ممتد ، مثقله بذكريات الماضي،أن ذلك الفتى القروى سوف يغدو مع الأيام شيخا للحكائين عبر كل الفصول !! من "ماكوندو" ومع أول تعرفه على أصحاب الخيال العظيم، هؤلاء الذين كتبوا كثيرا عن الأبدية ،والذين قدموا بأسى أرواحهم للعالم تجوس عبر الظلال أماكن مكتشفة، وبعد أن تعرف "جارثيا ماركيز" على فوكنر وكافكا والمعلم الضرير بورخيس وجويس وكونراد، كان عليه أن يكتب الكثير من الحكايات لكي يبدع حكايته الكبيرة "مائة عام من العزلة"، تلك الرواية التى أطلقوا عليها معجزة لا يمكن أن تحدث سوى مرة حتى لو كانت أقرب إلى أن تكون "نصا مقدسا" منها لرواية. الانطباع الأول، بعد إعادة القراءة، لبعض أعماله الخالدة، جعلني أتذكر ما قاله أحدهم: إن ماركيز هو المنافس الحقيقي الوحيد لهوميروس وتولستوى. لا مناص من تأكيد تلك الحقيقة!! ينفتح أمامك ، عبر توتر الصفحات،عالم من الغبار والرمال ، والمطر، عالم للزمن فيه مدار ، وللخرافة جوهر بين الحقيقة، وما يبدو خيالا محضا، بدرجة لا تصدق تراه في الكتابة رأى العين.. عالم يحمل داخل تفاصيله ذلك المدهش والمثير، والحرام، والخوف المعذب من الخواتيم، ونهايات الأعمار التي سوف تقضي وتشاهد أحد أبنائها بذنب خنزير، فتتحقق اللعنة!! نحن بإزاء كتاب، واحد يزدحم بالسحر، ولون الدم، والبطريرك المستبد، والعزلة، والبشر المثقلين بذكريات ما فات وانقضى، والأزمنة في تجاورها وصراعاتها والحرب تطبق على ذلك الوجود الملغز الذى يزدحم بأشخاص، لا تعرف أن كانوا أحياء، أو موتى، يؤكدون ما قاله يوما "أوسكار وايلد" "ليس للحياة اختيار سوى محاكاة الفن". يكتب الروائي الاستثنائي واقعه فيحوله إلى فن وتخييل مختلف بشكل جذري، يتقاطع في أحيان كثيرة وخيال بورخيس عندما يحكم أسطورته، وينسج متاهاته!! في شتاء 1965، سمعته "مرسيدس" زوجته ينخرط في بكاء مر يأتي من الطابق الثاني للبيت، وحين صعدت تستفسر عن الأمر، أخبرها أن العقيد "أورليانو بوينديا" قد مات في اللحظة. كان العقيد، ذلك الذي استمد وجوده من شخصية جده المحارب هو الذي منح الغني لمائة عام من العزلة بالغلمان والحرب وفتنة السمكات الذهبية والعشق ،وخاض ميادين القتال كأسطورة آثرت "أن تموت كاملة دون ضراعة الجبان" !! تدق الأجراس فيجيء الغجر، لا تعرف من أين يجيئون إلى "ماكندو" وميلكيادس الشيخ الذي لا يفني، يحمل في صدره حكمته، متجسدا عبر الفصول، يشيخ، ثم يعود شابا، يتوهج بمعارفه وصلاح روحه، حاملا أسراره إلى خوسيه أركاديو بوينديا، معجزات الكيمياء، وأسرار المغناطيس، وقراءة رقائق الجلد. تحوم في أرجاء البيت الأم "أرسولا" مدافعة عن كينونة أسرة يدفعها الجنون إلى مصير غامض، فتشيد البيت، وتفتني الحيوان، وتبيع الحلوى في سوق البلدة. فى "خريف البطريرك" تدق الأجراس حفاوة بتولي السيد الرئيس السلطة، وإلى الأبد، منذ طفولته وحتى يوم القيامة، وحين يشعر أن وزير حربه رود ريجو يخونه دس به إلى فرن النار ليشويه، ويقدمه لأصدقائه محاطا بالبقدونس والصنيبر، خارجا من الفرن بذراعين شبيهين بجناحي حمامة، قائلا لهم : كلوا هنيئا مريئاً السيد وزير الحرب بالهنا والشفاء !! وهناك بعيدا، عند شاطئ الحيرة،في رواية "الحب في زمن الكوليرا يمكث عاشق خمسين عاما مع معشوقته، حيث يصنع الممكن من المستحيل، وحين تسأله الحبيبة وهم: يمخرون عباب البحر جيئة وذهابا: إلى متى تعتقد أننا نستطيع أن نمضي ونعود، فيجيبها إلى الأبد. يغيب عن الدنيا ذلك الكاتب العظيم ، تاركا وصاياه بين سطور كتبه، ومجسدا عالما من الفن لا يفنى طالما بقى الخيال.