خلال أربعينيات القرن الماضي وبعد أن فتح الله أبواب الخير وتدفق النفط في أراضي المملكة؛ كان لا بد من وسيلة لتوصيل هذه الثروة الهائلة والمغنم الكبير للمملكة إلى منافذ البيع والإفادة من عوائده في زمن ظلت الإمكانات فيه محدودة إلى حين، فأنشأ هذا الخط والأنبوب العملاق على امتداد هائل بين ساحل الخليج العربي وساحل البحر الأبيض المتوسط، إضافةً إلى قيمته الاقتصادية الكبرى التي أدت إلى إنجاح صناعة الزيت السعودي، وسهَّلت أعمال شحنه ونقله إلى أوروبا وأمريكا. ويعدّ مشروع التابلاين تحدياً في عالم صناعة النفط، لا سيما وأنه الأكبر من نوعه وابتكار هندسي عملاق؛ إذ بلغ طوله (1664) كيلو متراً؛ ليكون منفذاً لنقل النفط السعودي إلى الخارج. وعلى الرغم من الظروف الصعبة آن ذاك سواء على المستوى الجغرافي أو السياسي أو الأمني، وضعف الإمكانات حينها، إلاّ أنّه وبتوفيق الله ثم بالعمل الدؤوب والمتواصل زاح هذا المستحيل، وتم إنشاء الخط في أقل من ثلاث سنوات وصولاً إلى «صيدا» في «لبنان»، وكانت مشكلة الشح في إمدادات الحديد بسبب الإقبال المتزايد عالمياً على التصنيع الحربي المتزامن مع الحرب العالمية الثانية وما تلاها من السنوات أبرز العقبات في طريق الإنشاء، وكذلك صعوبة نقل الأنابيب الحديدية كل تلك المسافة الطويلة والوعرة عبر تضاريس صحراء الدهناء وصحراء النفود، فكان حلم إنشاء أكبر خط أنابيب للزيت في العالم في تلك المنطقة تحديداً الحلم أشبه بالمستحيل. ذكريات وأحداث كثيرة حملها التاريخ لنا عن حقبة مضت، وأسست للأجيال المقبلة إلى أن منّ الله علينا وأصبحت المملكة في طليعة الدول بالصناعة النفطية وسبل تعزيزها، فأنشئت المدن الصناعية كالجبيل وينبع، وآخرها كان مشروع «وعد الشمال» والذي ينبئ -بإذن الله- بمستقبل صناعي زاهر ورافد اقتصادي، إضافة إلى احتوائه للموارد البشرية وتوظيفها والتوسع للتخفيف على المدن الرئيسة. خط الزيت ترى كيف كانت المسيرة التنموية والاجتماعية من خط التابلاين إلى وعد الشمال.. ما هو التابلاين؟ هو خط أنابيب نفطي يمتد من «القيصومة» في المملكة حتى ميناء «صيدا» في «لبنان»، وجاء اسم تابلاين من اختصار عبارة (Trans-Arabian Pipeline)، والتي تعني بالعربية «خط الأنابيب عبر البلاد العربية»، وكان المشروع مشتركاً بين الشركات المالكة لأرامكو حينذاك، تحت اسم «شركة خط أنابيب الزيت الخام عبر البلاد العربية»، وأصبح معلماً بارزاً في التجارة العالمية وصناعة البترول وهندسة خطوط الأنابيب، وكانت سعته الأصلية (300) ألف برميل في اليوم، وتمت زيادتها بعد ذلك إلى (500) ألف برميل، وأشرفت شركة «بكتل» الأميركية العملاقة على إنشائه بعد أن بينت دراسة هندسية أجريت في عام 1944م. أهل البادية تعرّفوا على «الخواجات» مبكراً وشاركوهم «الهمبرغر» ووجبات «طابخ روحه» ولا شك أنّ إنشاء هذا الخط، رغم صعوبته، يعتبر مجدياً وممكناً، وعليه فقد صدر أمر من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يقضي باعتماد تنفيذ مشروع خط «التابلاين»، وقع على إثره عبدالله السليمان وزير المالية الأسبق في 22 شعبان من سنة 1366ه، اتفاقية امتياز مع شركة الأنابيب التي يمثلها «وليم ج لنهان»، وبشراكة مع «اسو Esso»، «شيفرون Chevron»، «تكساكو Texaco»، «وموبيل Mobil»، لإنشاء خط أو خطوط من الأنابيب لنقل النفط ومنتجاته في السعودية إلى المرفأ النهائي على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكان مخططاً أن تكون المحطة النهائية على البحر الأبيض المتوسط هي ميناء «حيفا» في «فلسطين»، إلى الخزانات في ميناء «صيدا» اللبناني، تمهيداً لتعبئة الناقلات التي أصبح بإمكانها نقل الزيت إلى أوروبا في غضون أيام مختصرة تلك الرحلة البحرية البالغة (7200ميل) من رأس تنورة على الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط، إلاّ أنّ قيام الكيان الصهيوني عام 1948م عطل تنفيذ المشروع، وعندئذ أمر الملك عبدالعزيز بإلغاء الخط كاملاً أو إيجاد مسار بديل، فتم تحويل مساره إلى ميناء «صيدا» في لبنان عبر الأردن وسوريا. وقد استعمل لإكمال هذا المشروع (350) ألف طن من الأنابيب و(3000) قطعة من الآليات ومعدات البناء، وشارك في تنفيذ إنشاء المشروع (16) ألف عامل، بتكلفة قدرها (150) مليون دولار، وتم الانتهاء من إنشائه في عام 1950م، وبعد شهرين من ذلك بدأ ضخ النفط إلى ميناء «صيدا»، وشيدت عليه خمس مضخات في «النعيرية» و»القيصومة» و»رفحاء» و»عرعر» المعروفة سابقاً ب»بدنة» و»طريف»، وهي آخر محطة على الأراضي السعودية، أي أن تدفق الزيت كان في عام 1950م، وقد تم إيقاف الضخ إلى «صيدا» بجنوب لبنان مع الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان الذي يمر بها الخط. تدفق النفط وكانت الحاجة ماسة لمنافذ بيع تمتد إلى «صيدا» في لبنان وتم تمويل المشروع بكلفة 150 مليون دولار توطين البادية كان ل»التابلاين» دور كبير في بناء حضارة الحدود الشمالية، حيث استقر سكان المنطقة الذين كان معظمهم من الرحل ممن يتنقلون بين الواحات والرياض الخصبة، ليستقروا في المدن لتعليم أبناؤهم في المدارس، ومعالجة مرضاهم في المراكز الصحية المعدة لخدمة أبناء المنطقة والعاملين في أنبوب «التابلاين»، وكان من ضمن شروط العقد إنشاء موارد للمياه وبناء المدارس والمستشفيات في عدة محطات مثل عرعر، ورفحاء، وطريف، وكان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يسعى بكل جهده لتوطين البدو حتى ينال أبناؤهم قسطاً من العلم وتوفير العلاج والرعاية الصحية الأولية، أما القيصومة التي كانت قبل عام 1947م فيضة في شعيب «فليج» تنبت شجر القيصوم بكثرة، فاكتسبت الفيضة هذا الاسم وكذا كانت العرب تسمي المواقع بحسب ما يكثر فيها من نباتات ك»الشيحية» و»العوشزية» و»عرعر» و»النبقية» و»أم عشر» و»أم الرضم» وغيرها، وكان خط «التابلاين» سبباً في ازدهار هذه المدينة، التي نقل القصاصون، والإخباريون، روايات عديدة حول أرض القيصومة، وطيب المقام بها، بل وحفظ التاريخ الشفهي لها جملة من المرويات، والمنقولات، والقصائد، التي تدل على طيب وكرم أهلها وجمال أرضها. البدو وال»همبرغر» عرف أهل البادية في شمال المملكة وجبة الهمبرجر الأمريكية قبل الحاضرة، واستقر البدو الرحل بمناطق ومحافظات «النعيرية» و»القيصومة» و»رفحاء» و»عرعر» و»طريف»، بعد أن تم توفير فرص العمل لهم، واكتسب الأهالي في تلك المناطق اللغة الإنجليزية ومهارات التخاطب بها، وذلك من خلال عملهم في «التابلاين». واسترجع أبو طراد «مفضي العنزي» -أحد كبار السن- ذاكرته لذلك الوقت ويتذكر أيام الصبا والشباب وهو يقول: «أنا أحد الذين عملوا في التابلاين مع مجموعة من أقربائي، وتعلمنا من الخواجات الكثير، وما كنا نعرف بعض الأشياء، كاللعب بكرة القدم التي كنا نتسابق إليها في ملاعبهم، وكانوا يسعدون بتواجدنا معهم، ويتعلمون منا بعض العادات والتقاليد، وكانت عندهم أكلات غريبة ما كنا نعرفها سابقاً، مثل الهمبرغر، والماء البارد، والثلج، والآيس كريم، وكانوا يفرحون إذا رأوا البدو، وكان على خط التابلاين الكثير من الأبار، أكثر من (50) بئراً، اجتمعت حولها القبائل، وكنا أهل ابل ومواشي وبيوت نحل ونرتحل، ولكن الحمد لله توفرت المياه وتوفر العمل وعمرنا بيوتنا حيث مقار إقامتنا». العمل على خطوط التابلاين بالقرب من طريف الأكل المعلب وكما روى كبار السن الذين عاصروا تلك الحقبة أحاديث البساطة في حياة البدو الذين عمروا القرى الواقعة على خط «التابلاين» في أواسط القرن الهجري الماضي، حيث وجود «الكانتين» وهو أشبه ما يكون بسوق مركزي مرتب ومنظم بحيث كل قسم منه يختص ببضاعة معينة، كما توجد العديد من وسائل الترفيه البريء مثل ملاعب كرة الطاولة والمضرب «التنس الارضي» و»البلياردو» و»الجولف» التي يستمتع بلعبها الأهالي آنذاك، كما توفرت وملاعب كرة القدم وبعض المسابح المغلقة. وكان عمّال «التابلاين» يتميزون بالانضباط واحترام الوقت وحسن الهندام سواء كانوا بملابس الوظيفة أو خارج أوقات العمل. وذكر «محمد المحفوظي» أنّه في مقتبل شبابه كلف مع زميل له بمرافقة موظف شركة «أرمكو» واسمه «جاك»، حيث يتنقلون معه من المنطقة الشرقية إلى «تل الهبر»، ومن ثم إلى «طريف» وقبلها كانوا يمرون بالقيصومه ورفحا وعرعر، كانوا ينامون في الصحاري والبيد القاحلة، ويأكلون في أثناء الطريق هم وزميلهم «جاك» علب التونة التي يسمونها آنذاك «طابخ روحه» كما يأكلون الجبن المعلب، أما حين وصولهم إلى آهالي المنطقة في القرى والهجر، فإنّ عناء الأكل المعلب يتلاشى أمام «مواجيب» الكرم العربي الذي هو صفة من صفات عديدة يتحلى بها أبناء تلك المنطقة. فراق التابلاين حزن الأهالي على إزالة آثار «التابلاين»، وحزن الناس حزناً شديداً عندما أُزيلت بعض آثار هذا الخط التاريخي، ولم يتبق إلاّ الأنبوب الذي كان ينقل النفط من رأس تنورة بالمنطقة الشرقية إلى «صيدا» بلبنان، حيث ذكرياتهم في المنطقة، وولادة أبنائهم، وعلاجهم، ومدارسهم وذكرياتهم في ساحات وباحات مشروعات «التبلاين»، التي كانت تمثل مصدراً من مصادر رزقهم إذ وفرت لهم الكثير من فرص العمل سواء كانت بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن الذكريات العالقة في أذهان كبار السن اللعب حول الأنبوب بشكل مجموعات ويبدأ السباق من مسافات بعيدة، ومن يروي هذه الذكريات كانوا صغاراً في السن، يلعبون أمام هذا الأنبوب التاريخي، ويتذكرون جيداً كيف كان الوصول إلى الأنبوب أو ملامسته يعتبر فوزاً حقيقياً لهؤلاء الأطفال الذين طالت بهم الأيام، وبدت على أجسادهم ووجوههم ندبات السنين والأزمان، وهم يتذكرون الآن مراتع الصبا، ومحاسن ربيع العمر، كما يتذكرون جيداً كيف كانوا يحملون الفائز على أكتافهم، وفوق رؤوسهم، ليلتقط له «الخواجا» صورة تذكارية من كاميرته الفورية التي يحتفظ فيها بصورة عنده، ويترك الثانية في الجيب العلوي؛ لذلك الطفل الفائز والذي استطاع الوصول إلى الأنبوب قبل زملائة وسط صيحات الخواجات «كمان.. كمان خليف». حنين الخواجا قبل فترة ليست بالطويلة نشرت تقارير صحفية عن الهولندي «توني وفرهوفن» الذي عمل في «التابلاين» قبل (50) عاماً ودفعه الحنين إلى الماضي، وتحديداً في مدينة رفحاء، حيث كان ضمن الكوادر الأجنبية التي عملت على بناء مشروعات «التابلاين»، وقد بعث «توني» برسالة إنسانية معبّرة لأهالي رفحاء يتساءل فيها عن أحوالهم، وأحوال زملائه الذين عمل معهم في مشروعات «التابلاين»، وقال الهولندي، في رسالة لمواقع إخبارية في المحافظة، إنه مشتاق لأهالي رفحاء، وفخور بأنه ساهم في نقل التقنية والتعامل معها لبعض أبناء المحافظة عندما كانت مجتمعاً صغيراً للغاية، وتعود ذكريات «توني» إلى الفترة من 1957م إلى 1974م حيث عمل في مشروعات خط «التابلاين» التابعة لشركة أرامكو، وتخصّص في إدارة الكهرباء وبالذات في محطات الضخ. وجاء في رسالته «إنني في الوقت الحاضر أبلغ من العمر 78 عاماً، وحتى اليوم يساورني نوعٌ من الحنين إلى الماضي. وبعد أن أمضيت سنوات عديدة في رفحاء، فإني لا أزال أشعر بشعور جيد لأنني استطعت أن أساهم في تقدم بعض الأهالي هناك في منطقة رفحاء››. وأضاف ‹›أنا أتساءل كيف هم زملائي السابقون الآن؟ وماذا يفعلون اليوم في رفحاء؟ وأنا على يقين من أن بعض الناس لا يزالون يتذكرونني»، وسرد ذكريات النهاية فقال إنه خلال السبعينيات كان من الصعب على التابلاين الاستمرار، خاصة في ظل التنافس مع ناقلات النفط العملاقة، وهو ما أفضى لإيقاف المشروع وبذلك تركت الشركة في منتصف عام 1974 وعدت مع عائلتي إلى هولندا». دليلة الصقار كان للشاعر «عبدالله بن عون» قصة مع صقره الذي غاب عنه لمدة يومين وعندما عاد رأى حال الطير في نقص، فعزم على إطلاقه للصيد في عدة أماكن ذكر منها التابلاين ومن أبيات القصيدة: وألا شمال الهضبتين القراين شرقي طلال ومن سواحيق ويمين وألا عطينا سكة التابلاين ولا قد عطيناها عليها حراذين نصبح على طارات شهب المكاين بين العراقيين والاردنيين في خايعن به كن عيني تعاين ربد الحباري به على اربع وثنتين وعد الشمال وفي عصرنا الحاضر ومع الثورة الصناعية التي تشهدها المملكة فقد اعتزمت الدولة إنشاء مدينة «وعد الشمال» وهي ثالث المدن للصناعات التعدينية في المملكة، حيث سيكون مقرها شمال شرق مدينة طريف بمسافة 20 كم تقريباً وعن حزم الجلاميد قرابة (115كم)، للانضمام إلى مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين للصناعات التحويلية، وذلك بهدف تنويع مصادر الاقتصاد ودعم قطاعي النفط والبتروكيماويات في الناتج الإجمالي المحلي.. وتتطلع الدولة إلى ضمه لأكبر عدد من الكفاءات البشرية المؤهلة لتكون رافداً للتنمية الصناعية في المملكة، إضافة إلى توجه الدولة نحو تنويع مناطق الصناعة وتوزيع التنمية في مناطق المملكة للخروج من الاختناقات السكانية التي تواجها المدن الرئيسة. وبحسب قرار مجلس الوزراء فإنه تخصص أرض مساحتها (290 كم مربع)، لإقامة المدينة عليها، وكذلك تخصيص أرض مجاورة لتلك المدينة مساحتها (150 كم مربع) لمشروع شركة معادن للصناعات الفوسفاتية ومشروعاتها الأخرى المرتبطة به في منطقة أم وعال، ووجه مجلس الوزراء صندوق الاستثمارات العامة والشركة السعودية للخطوط الحديدية «سار» على ربط مدينة «وعد الشمال» للصناعات التعدينية بسكة حديد الشمال-الجنوب وتزويدها بالمقطورات المناسبة، لنقل حامض الفوسفوريك والكبريت الخام ومنتجات المشروعات الأخرى من مدينة وعد الشمال للصناعات التعدينية وإليها، وكذلك إنشاء محطة للركاب في تلك المدينة، وتظل منظومة مشروعات «وعد الشمال» التي بشر بها خادم الحرمين الشريفين أبناء المحافظات الشمالية في المملكة، تظل هذه المنظومة تمثل إحدى أكبر وأوسع المشروعات والمدن الصناعية في تاريخ بلادنا الحديث. سكان يمرون بالقرب من خط التابلاين أحد المواطنين يتحدث الى موظف شركة التابلاين طائرة خاصة تحط في موقع الشركة المشغلة لخط التابلاين لوحات توجيه على طول الخط لوحة تحكم في خط التابلاين خط التابلاين في ميناء صيدا بلبنان «وعد الشمال» أعادت ذكريات إنشاء خط التابلاين خط التابلاين إلى صيدا في لبنان عمال يطلعون على إجراءات السلامة