أحد المشرفين علي أثناء دراستي العليا كان من العلماء المتميزين في تخصصه العلمي الدقيق، ولديه حقوق ملكية لأكثر من اكتشاف في مجاله. زميله في المبنى المجاور لديه براءة اختراع كسب منها هو والجامعة مبالغ كبيرة جداً، كان زملائي الطلبة في ساعات وقوفنا الطويلة في المعمل يتحدثون عن سيارته الفخمة التي شاهدوها يوما في طرقات المدينة وعن اكتشافه الذي تتسابق الشركات الدوائية متنافسة للحصول على حق تصنيعه. زميلي في المعمل عُرضت عليه اكثر من مجموعة بحثية في اكثر من جامعة الانضمام لها قبل حتى ان يناقش بحث الدكتوراه وذلك لتميزه في عرض نتائجه في المؤتمرات واللقاءات العلمية ولعدد الابحاث الكثيرة التي نشرها اثناء دراسته مع المشرف وبقية الفريق مقارنة بغيره من الطلبة. احد الزملاء أيضاً حصل على تمويل بحثي للباحثين المبتدئين في دراسة تقدم بها وهو لم ينه رسالته بعد وهذا يدل على تفوق كل منهم وتميزه. المشرفون كانوا يحرصون على أن يقدم كل منا ملخصا بحثيا للعرض في المؤتمرات العلمية وكثير من الطلبة كانوا يفوزون بجوائز تشجيعية على هامش هذه المؤتمرات وكنا جميعا نتحدث عن اننا يوما ما سنكون مكان مشرفينا في القاعة الرئيسية كمتحدث رئيسي! كانت هناك أيضاً النشاطات البحثية داخل الجامعة او الكلية حيث يقدم الطلبة بعضا من نتائجهم ويعرضونها بصورة علمية متقنة كي يتعودوا على تقديم المادة العلمية ونشرها، هذه النشاطات كان لها جوائز تشجيعية. كان كل طالب منا يتخرج بشهادة الدكتوراه وعلى اقل تقدير خمسة أبحاث محكمة هو الباحث الاول في معظمها وبضع مشاركات في مؤتمرات علمية. لم اجد يوما احتفائية من زملائي بالجوائز التي حصلوا عليها ولا بالمشاركات في المؤتمرات العلمية ولم نتعلم ان نتحدث بصفة ال «انا» حين نقدم نتائجنا او أبحاثنا بل كنا نتحدث عنها ضمن منظومة المجموعة البحثية مع حفظ الحقوق لصاحب الفكرة العلمية. رغم تميز مشرفينا العلمي وسمعتهم العالمية لم نشاهد احدا منهم يسعى للتسويق الشخصي بل انه حتى الاخبار الصحفية عن اي بحث علمي يشاركون فيه كانت تتم وفق سياسة النشر للمؤسسة التعليمية وضمن الحديث عن الاكتشاف ومعناه العلمي بدون تفخيم ومبالغة. حتى في تصريحاتهم الإعلامية عند المقابلات الصحفية للحديث عن بحث منشور لاقى استحسانا في الوسط العلمي يحرص كل منهم على المعلومة العلمية وتبسيطها. اذكر في أحد المؤتمرات كان المتحدث الرئيسي والمكرم من قبل المنظمين باحثا مشهورا في مجال السرطان حين اعتلى المنصة ليتحدث عن تجربته التي تجاوزت خمسة وعشرين عاما في هذا المجال كان كلامه عن تراكم المعرفة عن رحلته في البحث عن المعلومة مع تأثير ذلك على تطوره الشخصي والفكري بدون ان تشوه آذاننا ادعاءات بالتميز ولا تفاخر بعدد أبحاثه ولا شهرتها رغم اننا نتحدث هنا عن علامة في مجال الأبحاث السرطانية جملته الاخيرة كانت موجهة لنا نحن المبتدئين قائلا:» تكريمي هنا لا يعني انني مميز لان مثلي كثر يملأون هذه القاعة وموزعون في المعامل ومراكز الابحاث بل هو مجرد تشجيع لي ولكم كي نستمر في البحث لنتعرف على المزيد». العمل في المجال البحثي يهذبك يعلمك الصبر ويزيل عنك العنجهية التي تصور لك انك مميز وذو بصمة. هؤلاء الاشخاص كانوا مميزين جداً ومعروفين جداً أبحاثهم تحظى بمكانة علمية ويعتبرون مرجعا في تخصصهم الدقيق، لكن منهجهم صحي في عدم جعل انفسهم مادة إعلانية والابتعاد عن التسويق الشخصي المبالغ فيه لأنهم يعرفون قيمة العلم وقيمة البحث العلمي ويسعون لأن يكونوا مجتمعا معرفيا راقيا في تعامله هدفه الوصول للمعلومة وليس الانسياق وراء التلميع الشخصي، المجتمع المعرفي يختلف عن المجتمع الإعلاني الذي يركز على التسويق للمنتج، لان المعلومة العلمية ليست منتجا يسوق له بل هي نتيجة تم التحقق منها علميا مطروحة للنقاش العلمي.