مثلما اعترى الشعر من تجديد من حين لآخر حاكى ذلك الشعر الشعبي وقلده، واقتفى خطى شعرائه. وكان الشاعر التوعي رحمه الله من أبرز شعراء الشعبي الحديث بقصيدته «مسيكينة» ثم تلاه كثير من المبدعين، ولا ننسى ما للأغنية الشعبية من أثر في هذا المضمار. والدوافع وراء التجديد منها الملل من الرتابة والميل إلى إبراز التركيز على مواقف معينة من خلال التفعيلات والتناغم مع الأفكار والإيقاع. ويبقى الشعر شعراً ما حافظ على الايقاع والجرس الموسيقي إلى جانب الفنية الشعرية التي تميزه عن الكلام النثري. وللشعر الشعبي أهمية حينما يتجلى فيه الحس الاجتماعي من عبارات شائعة وأمثال تبرز المعاني والمقاصد التي يجلوها الشاعر مستعينا بها لإيصال نجواه إلى المتلقي. وكم يكون الشعر صادقا حين يلامس مشاعر المتلقي ويوقظ به ذكرياته ومعاناته. وبين يدي كتاب «القصيدة الشعبية الحديثة» من اعداد الشاعر عبدالله الفارسي جمع فيه مقولات لنقاد أكاديميين معروفين تحدثوا في دراسات ومقدمات ندوات حول الشعر الشعبي الحديث من حيث الزمن واللون، بخلاف ما أعنيه هنا وهو شعر التفعيلة في الشعر الشعبي أو الأغنية أو النثري. وضربوا أمثلة منها أبيات للأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن: قلت وش الوقت ناظرت ليل عيونها وصبح الجبين ومرت ثواني صمت وقلت الزمان انتِ وكوني اللي تبين من يومها ما عاد اناظر ساعتي وش حاجتي عد الزمن وهي الزمان الجاي وأبيات للشاعر عبدالله عبيان اليامي منها: باب داخله مليون باب انفتح يبكي النهار اللي شهق بين وسطى الليل وابهام الشفق لَيْنْ نادتني الدروب وجيت ماشِ حاملٍ في جيبي المشقوق بعض اللي تبقى من معاشي كل همي شوفة امي بعد ما طال الغياب ومن قصائد الشعر الشعبي الحديث في الزمن الجميل قصيدة عن محادثة بين متناجيين عبر الهاتف نشرت قبل أربعين عاماً مواكبة لظهور الشعبي الحديث بشكل أوسع تحت عنوان «ألو»: كِنِّى أشوفك في صدى كلمة ألو صوتك.. وطيفك والكلام المِّتزنْ ياهو حلو لحن رائع أسمعه القى فْ صداه صورتك نسمة حنان تملا إحساسي وفكري وانتظر طول الزمان ألقى فيها وش أبي من ها الزمان * * * وما أجمله لما الكلام يبقى طيوف مصورة فيها المعاني معبرة * * * أحكي معك أبقى فْ ذهول ومهما الكلام بَيْنَّا يطول برضه فْ ذهول معذور ما استوعب حديث الحب لما أسمعه الفرحة تشغلني وتسرح بي معه وكانت عيونى تبتعد فرح وحنين وكانت ضلوعي ترتعد شك ويقين * * * وبعد ما تمضي دقائق ما اسمعك السكة تغرقها الدموع واحنا يذوبنا الولوع ألقى الصدى يملا خيالي كِنِّي اتكلم معك ماكن سماعة تليفونك تواري أدمعك وابقى افتكر وش قلت لي وش قلت لك * * * واسمع معاني ما بعد قيلت لاحد تبقى معي هالة سعد * * * وبنلتقي برضه وفى نفس المكان من غير تحديد الزمان بِنْدير قرص الهاتفة خَمَس دْرجات ألقاك ساهم منتظر رنة جرس واسمع ألو من قبل ما يرن الجرس وتعود نفس القصة اللي قلتها بطابع جديد فيها معاني ما بعد قيلت لاحد حتى أنا واياك ما تكلمنا بها ولا سمعنا مثلها وبنشتكي جور الهوى وما قلت لك أبغى أشوفك عينى في عينك والاصابع تلتحم شفي أنا يكفى أشوفك في صدى كلمة «ألو» كان هذا عندما كانت أرقام الهاتف خمسة أرقام. عبدالله عبيان عبدالله الفارسي فإذا كانت هذه القصيدة واحدة من النماذج المعبرة عن أوجاع القلوب، المدونة لمرحلة تحولات شهدها مجتمعنا فإنها تعبر أيضاً عن قيم الزمن الجميل، الذي كان الهاتف فيه مسرة كما كان يسمى، مسرة من السرية، ومسرة من السرور. والشعر الحديث يتناغم مع رتم الحياة، ويستجيب لذائقة المتلقي وبه جماليات تعبر عنها المقاطع والوقفات والسياق الإيقاعي، وقل من يحسن السلاسة التفعيلية والانسياب النغمي، والتعبير الذي يختلج الوجدان ويسلب المتلقي الاصغاء لغير هذا الشعر، وليس كل ما سمي شعراً يبلغ مكامن التأثر.