وأعني به ما عرف بالشعر النبطي وجاءعلى نهج الشعر العربي القديم وما يطلق عليه اليوم العمودي أو التقليدي. وقد تحدث المنظرون والدارسون لهذا الشعر بتوسع يقصر عنه هذا المقال الخاضع لسدة مجاله، وإجمالاً يمكن القول: إن هذا الشعر جاء تقليداً لشعر الفصحى، يقتفي فنونه وينسج على منواله، طامحاً إلى بلوغ ذروته، وقد تحقق له ذلك في كثير من درجات الشعر ما عدا الالتزام بالقواعد النحوية التي تدرك بالتعليم وهو ما ليس في متناول كل الناس. وهؤلاء الشعراء يعبرون شعراً عما يختلج في صدورهم، وهم يدركون أن التعبير شعراً يخضع لمعايير من نوع ما، تعبير يختلف عن الكلام الدارج، فجاء شعرهم على مستويات مختلفة من الإبداع كما هي الحال في شعر الفصحى من حيث القوة والضعف، وقد تظهر الصنعة في شعر الفصحى لحرص شعرائها على مراعاة كثير من قوانين ومعايير القصيدة الشاعرة، وتتجلى العفوية في القصيدة الشعبية التي تنشأ على السليقة وفق حافز ملح واهتمام بالمعاني، وردود الفعل المتلقي أن تفي القصيدة بأغراضها دون اهتمام بأمور نحوية أو بلاغية، وقد يتأثر هذا الشعر بثقافة أو تعليم صاحبه، وجيد الشعر الشعبي لم يتطلع أصحابه إلى بلوغه درجة شعر الفصحى، حتى وإن عدت بعض قصائده من عيون الشعر. وشعراء النبط يقتفون شعراء الفصحى في تقليد فنون شعرهم وأشكاله لديهم، ولعلنا اليوم نتناول ذلك بشيء من الإيجاز والاكتفاء بالشواهد من النوعين مع شيء من التعليق، فالشعر تعبير عن حالة معاشة، أو معاناة خاصة أو عامة، أو هو رسالة استنهاض لمعالجة هذه الحالة أو المعاناة، وقد يجيء غير ذلك وفق الأغراض التي تستحث الشاعر للتعبير عن مشاعره نحوها، ومن هنا يظهر الحافز ودرجة إلحاحه على الشاعر ومدى الحاجة إلى تلقي الإجابة أو ردود الفعل حول الموضوع المثار، ومن هنا جاءت الإطالة (القصيدة) والإيجاز والتكثيف (عدد الأبيات 9في التعبير، فكانت الحوليات كالمعلقات وما قصر دونها شعراً وجاءت المفاخرات التفصيلية والمراثي المعبرة عن الحزن والمآثر، ثم جاءت المقطوعات الشعرية التي لا تتحمل التأخير والتأجيل، والأبيات التي تحمل فكرة واحدة أو لغزاً محدداً فكان البيت والبيتان أو ما زاد عن ذلك مما يكفي للتعبير عن الموضوع المثار مما لا يحتمل التأخير طرحاً أو رداً. ومن هنا جاء البيت الواحد في شعر الفصحى في الحوار الحي بين شاعرين متقابلين، كما حدث بين الشاعرين امرئ القيس وعبيد بن الأبرص في الألغاز حيث قال أحدهما: ما حبة ميتة قامت بميتها درداء ما أنبت ناباً وأضراساً ليجب الآخر: تلك الشعيرة تسقى في سنابلها قد أخرجت بعد طول المكث أكداساً وما دار بين أبي تراب والشريف العباسي وقد اجتمعا فقال أبو تراب: أسلوت حب بدور أم تتجلد وسهرت ليلك أم جفونك ترقد فيجيب الشريف: لا، بل همو ألفوا القطيعة مثل ما ألفوا نزولهم بها فتبعدوا والمحاورتان طويلتان ومشهورتان في كتب الأدب. ووجد البيت الواحد في الرجز وما نسب إلى الجن من الهواتف، وفي مؤازرة المحاربين بأبيات الحماسة والمفاخرة، ومن ذلك ما قاله الذي تقدم للقود والقصاص فانقطع شسع نعله فأصلحه فقيل له: أما يشغلك عن هذا ما أنت فيه؟فقال: أشد قبال نعلي أن يراني عدوي للحوادث مستكيناً أو الذي يزعم أن له قريناً من الجن يهاتفه، فنام وانتبه وهو يردد: أنا بشير نَفءسيَه نفرت حاجباً ميَهُ أو الذي يرجز فيقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وقول الآخر: ردوا علي الخيل إن ألمّت إن لم أقاتلهم فجزوا لمتى وسواء عد ذلك من الشعر أو غيره فقد جاء في نسيج الشعر ومجاله، وعبر عن خطاب عاجل لا يحتمل التأجيل أو يستدعي الإطالة. وعلى غرار ذلك نجد في الشعر الشعبي من شعر البيت الواحد في الألغاز الذي يحدث في الحوارات الحية يقول الشاعر: وانا انشدك يا راع المثايل وش مخلوق يمشي فوق ظله؟ ليجيب الآخر: ذاك السيل من نو المخايل شال المال لا ما انه حصل له ومن محاوره جرت بين شاعرين التقيا في طريقهما إلى الحق (القاضي) الذي يبعد مقر إقامته عن سكن الشاعرين المتخاصمين (عيد وجءرَيء) مسيرة يوم، وعند التقائهما في الطريق كان عيد يمتطي جملاً أما جري فكان راجلاً، وبعد مسيرة قصيرة قال جري: يا عيد راكب والخوي ينقل الزاد ذي سالفة يا عيد ما احد رواها فأجابه عيد: يا جري أنا للربع ضايق وحقاد وبعض العرب يا جري ما ابغى خواها فأجابه جري: الضيق قَسءم اللاش عن قَسءم الاجواد عزي لغلمة ضيقها هو جداها عندها اقترح عيد التوقف للاستراحة في ظل شجرة وتناول القهوة وبعض الزاد. وقبل التحرك لمواصلة السير قال عيد: "ما رأيك في أن يتحاكم أحدنا إلى الآخر، ونجعل السيف حكماً بيننا، ونفصل في القضية ونوفر أتعاب السفر؟". قال جرى: ونعم ما قلت، فأنا رجل راشد وأنت كذلك وكل منا يعرف الحق من الباطل، والحق (القاضي) الذي نحن في طريقنا إليه سيحكم على ضوء ما يسمع من كلينا. وضعا السيف بينهما رمزاً للقضاء وخضوعاً للحكم. وتحاكما إليه وبعد حوار خلصا في نهايته إلى الفصل في القضية، وقبل كل منهما بما انتهى إليه الحكم في القضية، وعاد كل منهما إلى حيه. وقد يأتي البيت الواحد تساؤلاً أو إجابة عنه مثل قوله: سلام يا اللي نسيتونا ما كننا في البلد جيران ليجيب: جونا خطاطير والهونا معذار ما هو لكم حقران وفي طرح آخر في ميدان الحوار والرد يقول الأول: الليلة المعنى نشب له في صفاة يا اللي تعرفون المعاني دوروه ليرد الثاني: الليلة المعنى نخش له عين شاه اللي نخش عين الذبيحة نيروه وفي مزاعم هواتف الجن يقول الشاعر أنه رأى في منامه شاعراً يطلب منه الرد على قوله: حركوها حركوها ما ادري وَيءن المستراح فأجابه: ماذا أقول؟ قال له قل: والقناصل ساعدوها والذهب ماله متاحي ومن محاورة بين شاعرين يقول الأول منهما: لا تحسب اني جءرَيءف كل من جاني طمرني تراي غبة بحر ماكل من جاها عبرها ليجيبه الآخر: والله لاخاطر بنفسي وان عجزت الله عذرني كلِّش ولا قولة الغرمول عود عن خطرها ويقول شاعر آخر من طرق الجبل: من يوم شفت البيارق كان بَيءرَقت لي لنء مت فانا قتيلك وانت قتاليه فيجيبه الثاني من الطرق نفسه: بيرق تقدم مع فيصل وبيرق تلي خل البيارق تزلّه وانتق التاليه ومن شعر البيت الواحد ما ينشأ عفوياً في المناسبات العابرة مثل قول الشاعر: غطرفي يا حءدَيّه وانت يا ذيب غنّه من تمني لقانا بشّره بالمجنّة وقوله عن أهازيج العمل: ما سرحنا مع الفجر الأول غير حشمة وقدر الرفيق أو قوله: عاد الجميلة حقنا فيها الله يخلي من يخليها وإذا عدنا إلى شعر الفصحى نذكر من شعر البيت الواحد قول أحد الشعراء لمن بن زائدة - فيما أذكر - يمتحن صبره وكرمه حينما قال: فجدلي يا ابن ناقصة بمال فإني قد عزمت على المسير فأعطاه مالا استقله الشاعر فقال: قليل ما اتيت به وإني لأطمع فيك بالمال الكثير فزاده فقال: دعوت الله أن يقيك ذخراً فمالك في البرية من نظير والأمثلة من ذلك كثيرة، ومنها يلاحظ أن شعر البيت الواحد في الشعر الشعبي يحذو حذو شعر الفصحى في أغراضه ومرجعياته، وأنه يأتي خطاباً وجواباً لحوار محدد، أو تعبيراً عن رأي أو مداعبة أخوية أو استنفاراً واستحثاثاً ونحو ذلك مما يؤدي الرسالة أو الهدف الذي يرمي إليه الشاعر، وقد لا تتوفر فيه بعض المعايير الشعرية بقدر ما يكون مؤثراً.