تُعد "مرحلة الطفولة" أهم مراحل غرس المفاهيم والقيم، خاصةً ما يتعلق بالوطن، إذ إن ترسيخها في هذه المرحلة الهامة يجعل منها عنصراً مكوناً في توجيهه وبناء شخصيته، على اعتبار أن الفرد يكتسب الولاء الوطني منذ نشأته من خلال بيئته ومجتمعه بأكمله، حتى يشعر بأنه جزء من كل، وكذلك لكي ينشأ منذ مراحل عمره الأولى على ثوابت الولاء والانتماء لكيانه وبيته الكبير، إلى أن يصبح عنصراً فعّالاً ولبنة صالحة داخل بناء الوطن وشموخه. وتعد الأسرة والمجتمع المحيط من أهم المؤسسات التي تعمل على تشكيل وتنمية المواطنة والوطنية الحقيقية عند الأطفال، إضافةً إلى دور المسجد والمدرسة ووسائل الإعلام، ونستطيع حالياً إضافة العالم الافتراضي، أو ما يُبث من خلال أجهزة التواصل الحديث، من أجل إنماء سلوكياته الايجابية، عن طريق تنمية القيم والمفاهيم الموجبة، خاصةً الوطنية، المتمثلة في حب الوطن والأرض والأمة، وصيانة حقوقها والدفاع عنها وعن مقدراتها، وكذلك الالتزام بالحقوق والمبادئ، والاعتزاز بالتراث والقيم والمنجزات التي حققها؛ لأن مثل هذه الأسس التربوية تبدأ عادةً كمعرفة وتوجيه في مرحلة الصغر، وتنتهي بسلوك وممارسات، سواء كانت إيجابية أو سلبية. ولنا عبرة على سبيل المثال بالكثير من الشباب الذين كانوا صيداً سهلاً لدعاة الجهاد المزيف، وجماعات التكفير الذين زج بهم إلى مجاهل الفتن، فانتهى بهم المقام إمّا بالقتل أو السجن والتعذيب، والذين لو كانوا يملكون الحصانة التربوية السليمة والتوجيه الكافي، لما استطاع أي كائن من كان أن يخدعهم أو يغرر بهم. دور الأسرة ويُحمل التربويون الأسرة الجزء الأكبر من مسؤولية تنشئة الأبناء تنشئة صالحة وسليمة من أجل تعزيز هذا الانتماء، ليكونوا مواطنين صالحين، وذلك عن طريق غرس المفاهيم الايجابية في أذهانهم في وقت مبكر حول مقومات الوطنية والمواطنة، وهذا لا يتحقق أولاً إلاّ عن طريق التنشئة على العادات والقيم الصحيحة للمواطن المخلص، والدعوة إلى احترام أنظمة وقوانين البلد، وتبيان أن هذه الأنظمة لم توضع إلاّ من أجل مصلحته وحقوقه ومصلحة وحقوق مجتمعه، وكذلك الحفاظ على مكتسباته الأمنية والأخلاقية، والبعد عن كل ما يثير الفتن، حتى يصل درجة أو مرتبة تقدير المصلحة العامة للوطن وتقديمها برضا وعن طيب نفس على مصالحه الخاصة، وهذه من أعلى مراتب الوطنية، والأهم من ذلك كله أن يكون المُربي قاعدة أو قدوة يحتذى به في مظهره ومخبره؛ لأن الصغير أو الشاب دائماً يبحث عن قدوة ليتبع خطاه ويسلك منهجه، ومثله الأعلى في هذه المعادلة هي الأسرة وقوامها الأب والأم والأخوة الكبار، إضافةً إلى الأقارب الآخرين والمجتمع. تعبير الطفل عن حب الوطن يزيد إخلاصه مستقبلاً نعمة الأمن وإذا ما تمعنا سيرة الأجيال التي كانت قريبة من مرحلة التأسيس الأولى، ومن كان لهم اتصال مباشر بالفئة التي عايشت فترة الفوضى وعانوا ويلاتها، أيام كانت البلاد يحكمها العرف الذي كان يبيح السلب والنهب وسفك الدم تحت مسمى الغزو، نجد أن هؤلاء وهم القريبون من مرحلة التأسيس كانوا أكثر صدقاً وإخلاصاً، وكانوا أكثر منا شكراً للنعمة، أي نعمة الأمن التي لا يدرك قيمتها ومعناها إلاّ من فقدها، ولنا عبرة بالكثير من بلدان نعرفها جيداً، كانت قبل خمسة أعوام فقط تنعم بقدر منها، وما آلت اليه في وقتنا الحالي حتى أصبح أهلها لا ينشدون حالياً غير الأمن الذي ضيعه سفهائهم، فدفع ثمن ذلك الأبرياء منهم، إذ إن الفتنة التي كثيراً ما تزيل النعم يشعلها عادة السفهاء والمأجورون ويدفع ثمنها العقلاء والأبرياء. إدراك حسي وأدرك جيل الآباء والأجداد القريبين منّا التجربتين بكل أبعادهما، إما بذاتهم من خلال المعايشة أو من خلال ما نقل لهم بطريقة مباشرة عن آبائهم ومجتمعهم، وماذا كنّا وكيف أصبحنا، وبالتالي لم يحتاجوا إلى بذل أي مجهود من شأنه ترسيخ معنى الوطنية في أذهان أبنائهم، بل إن الأبناء كانوا يتلقون التوجيه عن طريق الإدراك الحسي، من خلال ما يحدث من ممارسات وتصرفات "القدوة" أمامهم، أي آباءهم ومجتمعهم، وما يدور في مجالسهم التي كانت بمثابة مدارس تربوية أخرى قائمة بذاتها، حتى كان الطفل أو الشاب يعرف جيداً ماذا يعني والده أو جاره، وهو يدعو ساجداً بكل جوارحه وهو في صلاته أو في سرائه ويلح في الدعاء، أن يديم على بلاده ومجتمعه نعمة الأمن والأمان وبالعون للقائمين عليه، مثلما يدركها ويدرك بعدها من إمام المسجد أو خطيب الجمعة في كل صلاة ومن المحيطين به كافة إلاّ ما شذ. استثمار التقنية يساعد الأطفال على حب وطنهم حائط الصد وبالتالي فقد نشأ الشاب قديماً وهو لا يقبل بأي شكل من الأشكال أن يساء للوطن وحكامه وعلمائه ورموزه، وتشويه منجزاتهم أو التقليل من شأنها، لا بالقول ولا بالعمل، ولا يترك فرصة لأي سفيه أو حاقد أو محرض أن ينال من سمعة وطنه والقائمين عليه، ولا يتردد حين ذلك في إسكات من شذ عن القاعدة والتصدي له وتسفيهه والإنكار عليه، بل وطرده من المجلس إذا ما تمادى، حتى لو كان من أقرب الناس إليه، لذلك ما كان أحداً يجرؤ أن يمس الوطن ورموزه بأي سوء لا بالقول ولا بالعمل، وهو يعلم أن المجتمع كله أصبح يشكل حائط الصد الأول والمكين ضد كل متطاول، وكل من يريد السوء بالوطن والقائمين عليه. يقول أحد المواطنين المهتمين بمعرفة السلوك العام: إنه راقب مثل هذه الفئات الساخطة أو المحرضة في المجالس العامة، وهي فئات لا تخلو منها بعض المجالس في بعض البيئات وإن كانت قليلة، فاكتشف أن الكثير منهم إما مدمن مخدرات -ضرب مخه-، ووصل إلى مرحلة الهذيان، أو شخص فشل في حياته العملية لأي سبب من الأسباب، فأصبحوا يكرهون كل شيء حتى أنفسهم، ولكن أمثال هؤلاء حتى وإن تجنبهم العقلاء والمدركون يبقون خطراً في التأثير على أبنائهم وأسرهم، ومن لا يعرف حقيقة ظروفهم النفسية.