على مستوى المفاهيم والمصطلحات المتداولة، هناك حاجة إلى تحديد معاني هذه المفاهيم وتوضيح المقصود من المصطلحات المتداولة. و إن عملية التحديد والتوضيح ليس عملا ترفيا، و إنما له مدخلية أساسية في فكر الناس وثقافتهم ومعايير التقويم لديهم للظواهر الفكرية والسياسية والاجتماعية؛ لأن في بعض الأحيان هناك من يتقصد خلق الالتباسات والتشويه سواء على مستوى المفاهيم أو المصاديق الخارجية لهذه المفاهيم. الخطير في الأمر على المستوى السياسي، حينما يكون المزاج العربي سواء في هذه الدولة أو تلك رافضًا للنظام الديمقراطي ومؤيدًا للنظام الشعبي؛ مع العلم أن كل نظام ديمقراطي هو بالضرورة له شعبية وازنة وهي القاعدة الاجتماعية التي دعمته وأوصلته إلى الحكم.. ومن هذه المفاهيم التي تحتاج إلى توضيح دقيق هو مفهوم الديمقراطية ومفهوم الشعبية. لأن هناك وسائل إعلامية عديدة تعمل على الخلط بين الديمقراطية والشعبية وجعل المفهوم الثاني هو معيار المفهوم الأول. وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى تجمد الفكر السياسي و تشويه المسارات السياسية والاجتماعية وخلق حالة من تزييف الوعي. لذلك ثمة ضرورة معرفية واجتماعية لبيان الفروقات بين مفهوم الديمقراطية ومفهوم الشعبية وأوجه التشابه بينهما. فهناك أنظمة سياسية في كل مناطق العالم لها شعبية، أي لها حاضنة اجتماعية واسعة، و لديها منجزات اقتصادية ومعيشية وسياسية عززت سمعتها وموقعها لدى شرائح محددة من شعبها. إلا أن هذه الأنظمة السياسية لم تصل إلى الحكم بوسائل ديمقراطية كما أنها لم تستمر في الحكم عبر آليات انتخابية ديمقراطية. هذا النوع من الحكومات والأنظمة السياسية، لا يمكن أن ننفي عنها صفة الشعبية، ولكننا نستطيع وعبر مفهوم وجوهر العملية الديمقراطية أن ننفي صفة الديمقراطية. فكل نظام سياسي يتوسل آليات الانتخاب والتداول هو نظام ديمقراطي و تارة تكون عملية الديمقراطية لديه شكلية و تارة أخرى تكون حقيقية. أما الأنظمة السياسية التي تتكئ على منجزها التاريخي أو الاقتصادي أو الخدمي، إلا أنها لا تتوسل آليات الانتخاب هي أنظمة سياسية لها قاعدة اجتماعية وشعبية، ولديها تأييد واسع أو محدود من شرائح وفئات مجتمعها، إلا أنها ليست ديمقراطية وفق المعايير المتبعة ديمقراطيا و دستوريا. وحينما نتحدث عن شعبية النظام السياسي، لا نتحدث عن إجماع الشعب أو المجتمع في تأييده للنظام السياسي. لأن إجماع أي شعب على تأييد نظامه السياسي دونه صعوبات حقيقية وغير متاح تحقيقه في الواقع الخارجي. بمعنى أن المقصود من الشعبية، هو وجود فئات وشرائح اجتماعية وازنة مؤيدة للنظام السياسي ومدافعة عن خياراته، وتعتبر نفسها هذه الشرائح هي القاعدة الاجتماعية للسلطة. في مقابل شرائح اجتماعية أقل وزنا وتأثيرا ليست مؤيدة بالمطلق لنظامها السياسي أو لا تعتبر نفسها من قاعدة السلطة الاجتماعية ونحن هنا لا نود المفاضلة بين ديمقراطية النظام السياسي وشعبيته، لأن المفاضلة تحتاج إلى مداخل أخرى، وإنما ما أردنا إثارته في هذا المقال هو عدم الخلط بين ديمقراطية النظام السياسي كمفهوم و حقائق دستورية و قانونية، وبين شعبية النظام السياسي حيث وجود تأييد صريح من قبل فئات المجتمع لخيارات النظام السياسي ومشروعاته المختلفة سواء كانت داخلية أم خارجية. ولو أردنا على ضوء هذه المفارقة بين الديمقراطي والشعبي أن نقترب من الواقع السياسي العربي. سنجد أن هناك أنظمة سياسية كالنظام السياسي المصري في عهد جمال عبد الناصر، فهو نظام سياسي له شعبيته الوازنة و لزعيم هذا النظام شخصية كاريزمية واضحة حيث الملايين من الشعب المصري كان يهتف باسمه ويدافع عن مشروعاته و خياراته. ويبدو لي أنه لا أحد يشك في أن النظام الناصري في مصر كان يمتلك شعبية وقاعدته الاجتماعية واسعة في كل المدن والأرياف المصرية، إلا أن هذا النظام، لا يمكن اعتباره نظاما ديمقراطيا. لأنه لم يأت إلى السلطة بآليات انتخابية، تداولية، كما أنه لم يستمر في السلطة بوسائل ديمقراطية. والخطير في الأمر على المستوى السياسي، حينما يكون المزاج العربي سواء في هذه الدولة أو تلك رافضا للنظام الديمقراطي ومؤيدا للنظام الشعبي. مع العلم أن كل نظام ديمقراطي هو بالضرورة له شعبية وازنة وهي القاعدة الاجتماعية التي دعمته وأوصلته إلى الحكم. ولكننا لا نستطيع أن نساوق بين النظام الشعبي والنظام الديمقراطي بدون استخدام آليات الانتخاب والتداول؛ لأن وجود هذا المزاج العربي الشعبي، لا يساعد على تطوير الأنظمة السياسية في العالم العربي، ولا يعتني بتطوير مفهوم الشراكة والتوسيع الدائم للقاعدة الاجتماعية للسلطة. وفي مقابل هذا نعتبر أن فرصة الأنظمة السياسية الشعبية للالتزام بالآليات الديمقراطية مؤاتية؛ لأن هذه الأنظمة ستوظف شعبيتها لتعزيز سلطتها عبر آليات ديمقراطية و دستورية. أما الفصل بين الشعبي والديمقراطي، سيحول دون بناء أنظمة سياسية متطورة وعميقة في الوجدان الشعبي والاجتماعي في وقت واحد. و المطلوب عربيا هو استمرار السعي والكفاح من اجل توظيف البعد الشعبي للأنظمة السياسية في بناء ديمقراطية ممكنة ومتاحة. أما الخطير في الأمر حينما تسود في المنطقة العربية أنظمة سياسية ليست ديمقراطية وفي ذات الوقت ليس لديها شعبية وازنة، فإن هذه الأنظمة تعيش الانفصال والاغتراب عن شعبها و محيطها الاجتماعي، كما أن قاعدتها الاجتماعية ضيقة ومحدودة، وستجبر كل هذه النواقص باستخدام القهر والقمع لإدامة سلطتها وهيمنتها على المجتمع. ولو تأملنا في تجربة الأنظمة السياسية العسكرية التي جاءت إلى الحكم عبر الدبابة والانقلاب العسكري وحكمت العديد من البلدان العربية في عقود الخمسينيات والستينيات سنجد هذه الحقيقة جلية وواضحة وصريحة. فهذه الأنظمة السياسية ذات قاعدة اجتماعية محدودة، واحتكرت كل مواقع الدولة والسلطة لأبناء المؤسسة العسكرية، و تعاملت مع فئات و شرائح المجتمع الأخرى بفوقية واستعلاء، وأماتت الحياة المدنية والأهلية، و ألغت كل فعاليات المجتمع المدني، فاتسعت الفجوة بينها و بين شعبها، ولا خيار أمامها للاستمرار في السلطة إلا سياسة تكميم الأفواه والاستمرار بقوة الحديد والنار، لجبر نقصها وإخماد الأصوات الرافضة إلى خياراتها ونهجها في الحكم. فتحولت السلطة في زمنهم في العديد من البلدان العربية إلى مصدر للإفقار المتعاظم لفئات المجتمع المختلفة، و طاردة للعقول المفكرة والمبدعة و مفككة لنسيج المجتمع. فكانت تجربة قاسية ومريرة على الواقع العربي، وأحسب أن المنطقة العربية لا زالت تدفع فاتورة الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها النخب السياسية العسكرية آنذاك. لذلك ثمة ضرورة دائمة في كل البلدان العربية في الاستمرار في تطوير أنظمتها السياسية وتجاوز الأخطاء السابقة سواء على مستوى الخيارات أو مستوى الأولويات لأنه لا تقدم حقيقي ولا قوة فعلية وازنة إلا في ظل أنظمة سياسية متطورة وتنشد التطور الدائم. لأن يباس الأنظمة السياسية سينعكس سلبا على مختلف جوانب الحياة. ولو تأملنا في لحظات التقدم والانجاز لدى مختلف الشعوب والأمم، لوجدنا أن هذه اللحظات تشكلت من لحظة تطوير وتحديث أنظمتها السياسية.