هل تسير أوكرانيا على طريق البلقنة؟. أو بتعبير آخر، هل يتكرر فيها النموذج اليوغسلافي؟. وماذا عن مستقبل علاقتها بحلف شمال الأطلسي (الناتو)؟. وهل يتدخل الحلف في الأزمة القائمة؟، واستتباعاً هل ثمة خشية من انجراف البشرية إلى حرب عالمية ثالثة؟ أجل، إن انزلاق أوكرانيا نحو البلقنة هو خطر يلوح في الأفق. يلحظه العالم، وتترقبه أوروبا، فهو قد يكون أزمتها القادمة؟ ثمة دعوات للانفصال في الأقاليم الشرقية والجنوبية، ذات الأغلبية الناطقة بالروسية. وهناك حد أدنى من المطالب ينادي بإقامة نظام فيدرالي، على النموذج الألماني، أو الأميركي. ما يُمكن قوله خلاصة، هو أن العالم يقف اليوم على مفترق خطير في حسابات الأمن وإعادة إنتاج التحالفات، شرقاً وغرباً، وعلى الأرجح أيضاً هنا في الشرق الأوسط لنرَ بداية، كيف اتجهت الأحداث؟ لقد شهدت مناطق شرق وجنوب أوكرانيا، القريبة من روسيا، تصعيداً مفاجئاً، عندما سيطر متظاهرون على مبانٍ رسمية في ثلاث مدن بشرق البلاد، هي: خاركوف ولوغانسك ودونيتسك. سيطر المتظاهرون في دونيتسك على مقر إدارة المقاطعة، وأعلنوا إنشاء "جمهورية دونيتسك الشعبية"، وقيام "مجلس شعبي" دعا إلى إجراء استفتاء على تقرير المصير، والانضمام إلى روسيا. وانتزع المحتجون راية المقاطعة من على المبنى، ورفعوا محلها علم "جمهورية دونيتسك الشعبية"، على وقع النشيد الوطني للاتحاد السوفياتي. واستولى المتظاهرون أيضاً على فرع جهاز الأمن الأوكراني في المقاطعة. وقال المحتجون إن الاستفتاء على تقرير المصير سوف يجري قبل 11 أيار مايو 2014، وأن هذا الموعد قد تم تنسيقه مع النشطاء المعارضين في مقاطعتي لوغانسك وخاركوف. وأعلن فيتالي ياريما، نائب رئيس الوزراء الأوكراني، أن السلطات لا تخطط لاقتحام مقر الإدارة المحلية في دونيتسك، الأمر الذي يشير إلى إدراك كييف لحساسية الموقف. وفي مكان آخر من الشرق الأوكراني، سيطر متظاهرون على مبنى إدارة مقاطعة خاركوف، وأعلنوا عن إقامة "جمهورية خاركوف الشعبية". وقالوا إن هذا القرار سيدخل حيز التنفيذ بعد إجراء استفتاء شعبي عليه. كما طالب المتظاهرون من روسيا، والرئيس السابق، فيكتور يانوكوفيتش، تأمين إجراء الاستفتاء بسلام. وفي وقت لاحق، أخلى المتظاهرون المبنى الحكومي نتيجة مفاوضات، شارك فيها الملياردير أحمدوف. بيد أنهم تجمعوا في اليوم الثاني أمام مقر إدارة المقاطعة، وطالبوا بإجراء استفتاء حول إقامة نظام فيدرالي. وفي لوغانسك، طالب رئيس مجلس المقاطعة، فاليري غولينكو، بإجراء استفتاء حول صفة اللغة الروسية وفيدرالية الدولة. وشهدت المقاطعة احتجاجات، سيطر خلالها المتظاهرون على مبنى جهاز الأمن الأوكراني. وطالبوا بإجراء استفتاء على الانفصال عن أوكرانيا. وفي مدينة أوديسا، الجنوبية المتاخمة لرومانيا، بدأ متظاهرون بإنشاء المتاريس في ساحة "كوليكوفو بوليه" ، حيث جرى جمع التواقيع من أجل إجراء استفتاء حول منح اللغة الروسية الصفة الرسمية، واعتماد اللامركزية الإدارية، وتحديد التوجه الخارجي لأوكرانيا. واتسعت رقعة المواجهات في مناطق الشرق والجنوب الأوكراني، لتشمل مدينة نيقولايف (مركز مقاطعة نيقولايف). في صورة مقابلة لهذه التطورات، وقعت إدارة مقاطعة دنيبروبيتروفسك اتفاقية تفاهم مع النشطاء الموالين لروسيا، الذين وعدوا بدورهم بالامتناع عن الدعوة إلى الانفصال. وعلى الرغم من نفيها أي دور لها في التطوّرات الجارية في الساحة الأوكرانية، فإن روسيا تلقت سيلاً من الاتهامات من قبل سلطات كييف، التي اعتبرت أن ما يدور ما هو إلا مكيدة روسية. وفي هذه الأثناء، قال مندوب الولاياتالمتحدة لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، دانييل باير، إن روسيا حشدت عشرات الآلاف من الجنود بالقرب من حدودها مع أوكرانيا. وقال باير: "لدينا أدلة قوية على أن هناك عشرات الآلاف من الجنود على الحدود، وهم ليسوا في مواقعهم الطبيعية وقت السلم، ولا في ثكناتهم." وقال الروس إنهم لا يسعون إلى تدخل عسكري، إلا أن ذلك قد يحدث في حال تعرض الناطقين باللغة الروسية لأي خطر فعلي، سواء من قبل سلطات كييف، أو المليشيات اليمنية المتحالفة معها. وعليه، فإن التدخل العسكري الروسي يبقى قائماً في حسابات الأزمة الراهنة. إننا هنا بصدد أزمة تندمج أبعادها المحلية بالخارجية على نحو وثيق. وفي هذه الأزمة، تبدو أوروبا أمام امتحان لم تشهد له مثيلاً منذ حروب البلقان في تسعينيات القرن العشرين. في الأزمة الأوكرانية الحالية، قد تخسر أوروبا، على نحو نهائي، رهانها على بناء وحدتها القارية، ويتعاظم الجليد الفاصل بينها وبين روسيا، وتجري إعادة إطلاق الحرب الباردة بين الشرق والغرب، ويتعزز عالياً المضمون الكوني لهذه الحرب. وأوكرانيا ذاتها، تمر اليوم بمرحلة حرجة على صعيد خياراتها السياسية في الداخل والخارج. والكيفية التي سيجري بها عبور هذه المرحلة ستحدد مستقبل الأوكرانيين والأوروبيين معاً، بل سوف ترسم آفاق العلاقة بين الشرق والغرب. ونحن هنا في الشرق الأوسط، سوف نكون معنيين بمسار الأحداث الدائرة على ضفاف البحر الأسود. ومن هنا، تأتي ضرورة مراقبة العرب لهذه الأحداث. وتقع أوكرانيا في مفترق الطرق لأوروبا، وتتخذ موقعاً هاماً على أعتاب الدولة الروسية. ويتأثر مستقبلها بمسار العلاقة بين روسيا والغرب. وهي تعتبر دولة شقيقة لروسيا بالمعيارين العرقي والمذهبي الأوسع. وقد ظلت على مدى قرون ركناً أساسياً في القوة السلافية الأرثوذوكسية. وكانت مندمجة في روسيا منذ القرن السابع عشر. ومن أصل سكانها، البالغ حالياً نحو 46 مليون نسمة، هناك أكثر من 17 مليوناً ينحدرون من أصول روسية، وتعتبر اللغة الروسية لغتهم الأم. وعلى الرغم من ذلك، لم يتخل الغرب منذ استقلال البلاد عن الاتحاد السوفياتي في العام 1991، عن رهانه على أوكرانيا أطلسية، تربط شرق أوروبا بالقوقاز وآسيا الوسطى، وتكون همزة وصل بين البحرين الأسود وقزوين، وممراً للنفط والغاز القادم من الشرق. وقد وصلت رهانات الغرب ذروتها مع قيام "الثورة البرتقالية" عام 2004، التي كان الابتعاد عن روسيا شعاراً محورياً فيها. و"الثورة البرتقالية" هذه، أفرز عداؤها لروسيا حالة من الاستقطاب الداخلي العنيف، الذي كاد يشعل حرباً أهلية طاحنة. وفي ذلك الوقت أيضاً، كانت الوحدة الترابية لأوكرانيا على كف عفريت، حيث سادت خشية من انفصال المناطق الشرقية والجنوبية. وفي العام 2008، ألقت حرب القوقاز بتداعياتها العميقة على الحياة السياسية في أوكرانيا، كما على مقاربة علاقتها بالغرب والروس على حد سواء. وقد انقسم الجسم السياسي الأوكراني حيال تلك الحرب، التي دارت رحاها بين روسيا وجورجيا، في أوسيتيا الجنوبية. وكان من نتيجة ذلك أن انهار الائتلاف الأوكراني الحاكم، وأعيد توجيه السجال، الخاص بمستقبل الخيارات الخارجية للدولة. وفي الأخير، تزايد منسوب الهواجس المرتبطة بالاستقرار الداخلي، كما بوحدة البلاد الترابية. وكانت أوكرانيا في طليعة الدول الداعمة لجورجيا، التي سبق ووقعت معها في العام 2005 اتفاقية تعاون في مجال التسليح العسكري. وبعد انتهاء الحرب، أصدر الرئيس الأوكراني آنذاك فيكتور يوشينكو، مرسوماً استهدف تقييد تحركات أسطول البحر الأسود الروسي المرابط في شبه جزيرة القرم، وذلك من خلال إخضاعه لقرارات عدد كبير من إدارات الدولة الأوكرانية. وحينها طرح أنصار الرئيس يوشينكو شعاراً مفاده أن وجود القاعدة الروسية في القرم يتنافى مع الدستور الأوكراني، وعليه لا بد من إزالتها، دون انتظار فترة نفاد الاتفاق المبرم بين الدولتين. وفي العام 2010، ذهب حلفاء أوروبا عن السلطة في كييف. ورأى الغرب أن انتخابات الرئاسة، التي فاز فيها رئيس حزب الأقاليم، فيكتور يانوكوفيتش، قد شكلت انتصاراً لروسيا في الصراع ضد النفوذ الغربي في الساحة السوفياتية السابقة. ورأى الغربيون إلى أن "الثورة البرتقالية" قد قادت إلى قلاقل سياسية واقتصادية، بدلاً من أن تمهد الطريق لإشاعة الديمقراطية على صعيد إقليمي. وقد عارض يانوكوفيتش انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، ودعم في المقابل بقاء الأسطول الروسي في القرم. وبعد الإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش، في العام 2014، وفراره إلى موسكو، بدت روسيا وقد فقدت حليفها الأول في أوكرانيا، بل فقدت رهاناً جيوسياسياً كبيراً في أوروبا. وهنا، كان انفصال شبه جزيرة القرم، وانضمامها إلى الدولة الروسية، نتاجاً مشتركاً لحسابات الداخل والخارج معاً. واليوم، فإن تطورات القرم، ولاحقاً الشرق الأوكراني، قد أعادت توجيه النقاش الغربي حول أوكرانيا ومستقبل علاقتها بالغرب ومؤسساته الإقليمية، كالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وبالطبع، لا يبدو من السهل على أوكرانيا دخول الاتحاد الأوروبي، في غضون السنوات القليلة القادمة، وذلك بسبب المعايير والشروط الكثيرة الواجب استيفاؤها، لكن دخولها إلى الناتو قد يكون أحد الرهانات الصعبة التي يقول بها اليوم بعض السياسيين الغربيين. وقبل سنوات، كانت مقاربة ارتباط أوكرانيا بالناتو قد بدت على درجة كبيرة من التعقيد السياسي والقانوني، ولذا جاء قرار قمة الحلف في بوخارست عام 2008 باستبعاد ترشيحها للعضوية، في حين أعلنت عن ضم كل من ألبانيا وكرواتيا لتكونا الدولتين 27 و28 بالناتو. وفي تلك القمة، أعربت ثماني دول أعضاء عن معارضتها ترشيح أوكرانيا. اليوم يبدو الوضع أكثر تعقيداً من المنظور السياسي. وفي السابع من نيسان أبريل 2014، قالت وزيرة الدفاع الألمانية، اورسولا فون دير لاين، إن الناتو لا يناقش حصول أوكرانيا على عضويته، لأنها لا تلبي متطلبات هذه العضوية، وهي تواجه مشكلات خطيرة. وفي مقابل الحذر الألماني هذا، قال رئيس جمهورية التشيك، ميلوش زيمان، إنه يرى من الضروري تدخل قوات الناتو في أوكرانيا، في حال قررت روسيا الدخول إلى مناطقها الشرقية أو الجنوبية. وبطبيعة الحال، لا يبدو أن هذا هو رأي الغالبية الشعبية أو السياسية في أوروبا، لأنه يعني ببساطة دفع البشرية نحو حرب عالمية ثالثة. وما يُمكن قوله خلاصة، هو أن العالم يقف اليوم على مفترق خطير في حسابات الأمن وإعادة إنتاج التحالفات، شرقاً وغرباً، وعلى الأرجح أيضاً هنا في الشرق الأوسط.