(الفساد الاجتماعي له جذور عميقة. لن نستطيع التخلص من الفساد الاجتماعي بفرض عقوبات مشددة. في مجتمع يوجد فيه تمييز وفقر وكسب غير مشروع، لا يمكن أن نتوقع من الشبان عدم انتهاك القوانين والالتزام بالسير على الصراط المستقيم. لا يمكنكم القضاء على الفساد الأخلاقي بالعقوبات القاسية). كان هذا تعليقاً من الرئيس الإيراني محمد خاتمي قبل سنتين على مجموعة من أحكام الجلد العلني الصادرة بحق عشرات الشبان الذين أدينوا بشرب الخمور والتحرش بالنساء. والتي نفذت في قلب طهران ساعات الذروة لتحظى بأكثر عدد من المتفرجين، وكان قد دعا في كلمة ألقاها أمام البرلمان الإيراني إلى ضرورة تفهم الشبان الذين يعانون من (أزمة هوية). عقوبة الجلد جاء ذكرها في القرآن الكريم في موضعين، في حد الزانية والزاني، وفي جزاء قذف المحصنات. وفي الأولى جاء الأمر بالتأكيد بأن يشهد تنفيذ العقوبة طائفة من المؤمنين، لم تحدد الآية عدداً معيناً. الطائفة تصدق على الواحد فما زاد، والسُنَّة العملية تثبت أن حدود الزنا، والقذف، والسرقة لم ينفذ شيء منها بعيداً عن الأنظار. بل كان يشهدها جمع من الناس، المرأة والرجل فيهما سواء. شارب الخمر بعد تحريمها كان عقابه في عهد الرسول علنياً، ضرباً بالنعل أو بالجريد أو بالثوب والعمامة من غير تحديد. كان توبيخاً أكثر منه عقاباً مبرحاً. يتناولونه علناً ويتناوشونه. يقوم بعدها الرجل، فيصلح من عمامته، ويسوّي ثوبه، ويخالط الناس، ويمشي في الأسواق، لاحقاً كانت العقوبة أربعين، زادها عمر حينما أغاظه إفراطهم في الشراب، وهجرة أخلاط الناس بأعراقهم وشتى انتماءاتهم إلى المدن، وتمددهم نحو الريف في ضواحي المدينة وغيرها، وكثرة (العلوج) العجم من الأحرار والمماليك. في المدينة كان الفساد ينمو. والقلق يسيطر على الخليفة العبقري. فبقعة كانت تضم رفات الرسول عليه السلام، ومسجده الذي أسس على التقوى، كان يعيش بين جنباتها شريحة بلغ فساد نسائها من الترف والتنعم أن يسمع عمر إحداهن وهي تردد من داخل بيتها: هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجاج لم تكن تشكو الفاقة ولا العري، ولا نأي زوجها ولزومه الثغور مع المرابطين أو سياحته مع الغزاة الفاتحين فترة طويلة. لا ... كان مبتغاها كأساً من الراح، أو غراماً تبادله أزهى شباب المدينة نضارة وشباباً وأكثرهم جمالاً. على النقيض من ذلك في قصة أخرى، أدهش عمر وآلمه أن يسمع صوت امرأة تطبخ الحجارة لصبيتها عسى أن ينال منهم النعاس، فيلزمهم الوسادة وينامون طاوين خيراً من أن يمزقوا فؤادها بنظراتهم المتعطشة المتسائلة. سمعها وهي تدعو عليه حيث نسي الأمانة ولم يخش الله في رعيته. القصتان ترمزان إلى التحول الخطير وصور متناقضة تعكس حياة شرائح المجتمع وطبقاته التي كان يعج بها مجتمع المدينة. هذه وهي المدينة! فكيف بمكة - التاريخ يثبت أن المدينة كانت على الدوام أكثر محافظة - وكيف بدمشق؟! كان عمر يغلظ العقوبة ويشدد في الأحكام ويعيد النظر في الشريعة كلما رأى التغير في حياة الناس والتحول. قل الإيمان وضعفت الذمم فتساهلوا في شأن الطلاق، يوقعونه عند أدنى خصومة، وأتفه صفقة، وأقل لجاج. أمضى الثلاث نافذة بائنة، بعد أن كانت تُحتَسب في عهد الرسول عليه السلام واحدة. خالفه في ذلك آخرون من علماء الصحابة، فأمضاه. وألزم القضاة به. جامله بعضهم، وآخرون أفتوا بالأمر الأول ولم ينصاعوا له. خالفوه باعتبار أن الخير كل الخير باتباع ما كان عليه الأمر في حياة صاحب الرسالة، وما حكم به وأقره. وعن حكمة التشريع دار جدل واسع، وتعددت وجهات النظر، وضرب عمر ضرباته في اجتهادات جريئة.. فكان بذلك أكبر المشرعين. وفتح لمن بعده كوة إلى رحابة التشريع ومرونة الأحكام، وانحنائها أمام المنعطفات والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كان حكيماً فضرب الخراج على سواد العراق الخصيب بدلاً من قسمته بين الغزاة، خلافاً لما كانت عليه سُنَّة الرسول، فكانت للجيوش الفاتحة ذخراً ولخزينة الدولة مدداً واستثماراً ضخماً. منع المؤلف قلوبهم من الزكاة وقد نص عليه القرآن، وكانوا يأخذون منها سهمهم في حياة الرسول وفي خلافة أبي بكر. قال لهم: لقد عز الإسلام وقوي. لم يعد بحاجة إليكم. أخذ من الشريعة مقاصدها، واعتمد جوهرها وروحها. آلت الخلافة من بعد عثمان إلى ابن أبي طالب فرد عقوبة الشارب إلى حالها قبل أن يزيدها عمر. وقبله جاء عثمان.. فتوسع الناس ورتعوا في الدنيا وضرب الإسلام بأطنابه وتدفقت الثروات ... واستشرى الفساد. فالناس أبناء الحياة. استأثرت بنو أمية.. فكانت نهاية ذي النورين: حاصره الشذاذ، ونالته الحثالة بسيوفها، ففاضت روحه والمصحف بين يديه. مضى عمر وعادت الناس إلى طبيعتها وأخلدت إلى حياتها، وبعض ولاته تنفسوا الصعداء، بعد شدته ومحاسبته لهم في الدقيق والفتيل، وخاضوا في الدنيا من بعده. وبقي الإسلام قائماً غالباً مهيمناً. ولكن الناس هم الناس. أتى علي فضاقوا به بعد عثمان. وكان للمُلك رجاله وأهله، فآل الصولجان إلى معاوية. وفلسفة الشعرة تحكم علاقة القصر بالمجتمع بشرائحه، سادته وسوقته، إن شدوا أرخى، وإن أرخوا شد. فحكم عشرين عاماً أميراً وعشرين عاماً خليفة. (لا يمكنك القضاء على الفساد الأخلاقي بالعقوبات القاسية). أصاب خاتمي كبد الحقيقة. كتب نور الدين الزنكي في المائة السادسة لأحد العلماء العارفين: إني أرى الناس قد أفرطوا في الجرائم، ولم تعد العقوبات والحدود الشرعية تزجرهم، فماذا لو ضاعفتها وزدت عليها. فكتب إليه: لن يصلح الناس إلا الأمر الأول. إن من شرع تلك الأحكام هو خالقهم وهو العالم بحالهم وبما سيؤول إليه أمرهم. يقابله في ذلك الفقيه يحيى بن يحيى الليثي الذي رأى أن الأمير قادر على عتق رقبة في الكفارة، ومقصد الشارع لا يتحقق بذلك، فرأى أن يلجأ إلى الثانية: صيام شهرين متتابعين. الفقهاء والمشرعون كانوا على مناهج متعددة، وأكثرهم فقهاً هو أعلمهم بالواقع وأكثرهم إدراكاً للمتغيرات التي تنعكس على الشريعة، وتطالبها بالاستجابة. ابن تيمية واحد من هؤلاء. فتح عمر بتلك الأقضيات باباً واسعاً للاجتهاد في تحديد المصلحة عند تطبيق الأحكام، فقد منع إقامة الحدود في أرض العدو لئلا يهرب الجاني إلى صفوف الأعداء، وعطل حد السرقة عام الرمادة، سنة الجوع والهلاك والبحث عن لقمة عيش تسد الرمق، وقبله كان الرسول عليه السلام يمتنع بحكمته عن أن يطال ابن سلول بعقاب أو تشديد، على ما كان يشيع عنه من امتهانه لتجارة الرقيق الأبيض في المجتمع المدني، وفيه نزلت آية سورة النور: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}، إلى تجديفه وإعلانه السخرية من الرسول عليه السلام وتأليبه الناس ضده في مواقف عديدة.. تسامح الرسول معه، وكان إذا عوتب أو نوقش في ذلك قال: لا. لن أقتله.. لئلا يقال إن محمداً يقتل أصحابه. عوداً على بدء... جلد المعاكسين والمتحرشين بالنساء علناً أو سراً، داخل تحت باب (التعزير)، وهو - حسب الفقهاء - ما يقابل الحدود، فالحدود عقوبات مقدرة (نصت عليها الشريعة)، والتعزير بابه واسع. للقاضي أن يقضي به على كل الجرائم التي لم يضع الشارع لها حداً أو كفارة على أن يضع العقوبة المناسبة لكل بيئة ولكل جريمة من سجن أو ضرب أو توبيخ أو غير ذلك. واختيار الفقيه لحالة جلد المعاقب علناً أو سراً تخضع لمصلحة الطرفين الجاني والمجتمع، فالجاني رغم ما يناله من عقاب، فالمقصود صلاحه وتأهيله ليكون فعالاً في مجتمعه. فإن زادت العقوبة لم تؤد الغرض منها. تخيير القاضي في انتخاب كمية وكيفية التعزير، لا يعني أن يتبع ميوله الشخصية في ذلك، ما هو داخل في الاختيار ومندرج تحت التعزير، فمجال النظر فيه واسع، للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية وللتحولات الثقافية، ظلالها عند التعامل مع تلك القضايا ذات الحساسية الشديدة. إلا أن فقه الشريعة يقول: إن إبدال العقوبة المحددة بأخرى هو من جنس الزيادة في العقوبة ومضاعفتها. كما فعل عمر. وإذا ساغ للفقيه الزيادة للمصلحة، جاز أيضاً نقصانها للمصلحة أو استبدالها بأخرى. سيان في ذلك عقوبات الحدود أو غيرها. بعض الحكومات تعمد إلى التشهير بمن يرتكبون جرائم كالتحرش والاعتداء على النساء أو الاغتصاب بنشر أسمائهم مع صورهم أحياناً على صفحات الجرائد، وكانت دولة الإمارات قد أعلنت قبل سنتين نيتها باتخاذ هذا الإجراء، غير أن المحكمة الشرعية لم تزل تصدر أحكامها بجلد الزناة، فقبل يومين صدر حكم بجلد فتاة في الخامسة عشرة!. البعض يرى أن التشهير أكثر نكاية وأشد إيلاماً وإذلالاً من جلدات ينالها المتحرش حتى ولو جرى إيقاعها علناً بسوق.. أو قبالة مسجد جامع.. فمساحة الإعلان محدودة مهما كثر الحضور والمتفرجون. آخرون لو خُيِّروا ما بين السجن والجلد لفضلوا أن يقبعوا في السجن سنة كاملة على أن تمسهم (العصا) أمام الناس. آخرون لن يترددوا بالقبول أن توقع عليهم 500جلدة دفعة واحدة علناً أو سراً على أن يلزموا السجن أسبوعاً. وقد ذكر ابن تيمية أن بعض السراق وقطاع الطرق لو خُيِّروا لاختاروا أن تقطع رؤوسهم على أن تُبتَر أيديهم من مفصل الكف. أحد القضاة يعلق على من يستنكرون الجلد العلني باعتباره وحشية وتعذيباً بدنياً لا مبرر له، فيقول: لو أن الصحف تناولت بعضهم بالكتابة عنه - شأن الصحف في الغرب التي تنشر أدق التفاصيل - لجاؤوا يتحدثون عن الستر في الإسلام، وأثر التقاليد الاجتماعية... إلخ. وانعكاس ذلك سلباً على نفسية الجاني. قبل نصف قرن كان في نجد سُنَّة متبعة حيث يكون عقاب من يتخلف عن صلاة الفجر في المسجد أو يأتي متأخراً، أن تنزع غترته أو شماغه من رأسه أمام الناس. كان ذلك في حينه إذلالاً يتحاشاه الناس، وفي إحدى المدن كان إيقاع ذلك الجزاء على أحد الوجهاء سبباً في صدام دموي. اليوم من يبالي؟ في غزوة تبوك اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم مع الثلاثة الذين تخلفوا إجراءً مؤلماً وعقوبة منكية، هجرهم وقاطعهم ونبذهم الناس حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم. هذه القصة شاهد على اتساع مفهوم التعزير وعدم اختصاصه بالجلد والسياط، وتدل أيضاً على أن بعض أنواع التعزيرات لها تأثير أقوى وأبلغ بكثير من السوط والجلد. المتابع لمواقف الحكومات الإسلامية التي تطبق عقوبة الجلد العلني (في السوق أو غيره) أو تنوي تطبيقها، يلحظ أنها تخص الجنايات المتعلقة بالعرض. بالشرف. هناك استثناء واحد وهو شرب الخمور في إيران والسعودية. في الشريعة جاء الجلد في جنايات الأعراض وما يتعلق بها، كالقذف، ولم يعزر الرسول ولا خلفاؤه في قضايا الفكر والاعتقاد بالجلد علناً أو سراً. على مر التاريخ كانت عقوبات الجلد على قضايا الفكر تتخذ سياسة، أو عداوة مذهبية ينفثها القضاة بتلك الأحكام المذلة. هذا ما يجب أن يحذره القضاة. قبل سنوات أصدر أحد القضاة حكماً بجلد أحدهم 700جلدة، و 8سنوات سجناً، وعند بوابة المحكمة فكر بالفرار، عزم فأطلق ساقيه ولكنهم تمكنوا منه.. وقاره منعه العراك، أو محاولة التفلت قال لأصحابه.. ليس السجن 8سنوات ما آلمني.. بل كان عقوبة الجلد. الخلاصة أن ثقافة المجتمع وأعرافه وموروثه الاجتماعي كل تلك العوامل متضافرة هي محددة لنوع العقوبات التي تتخذ إزاء كثير من الجنح والجنايات، والأهم أن تكون الجناية مستبشعة منبوذة ومن فعلها من المجتمع ليكون للعقوبة جدواها. فما عسى أن يفيد ذلك في بيئة تعتبر جريمة ما بطولة وشجاعة، والعقوبة عليها (مرجلة)، أو (ابتلاء) يستقبل بالتكبير والتهليل والغبطة؟! كانت الحكومة الماليزية قد درست إمكانية تنفيذ عقوبة الجلد العلني لأول مرة في تاريخها الجنائي الحديث بعد ازدياد حالات التحرش بالنساء وسفاح المحارم. وكان الرئيس الماليزي مهاتير أول المؤيدين لذلك الإجراء، محذراً - وهو مهاتير العظيم - من الاعتراض على تلك العقوبة لأن مثل تلك الجرائم لا تأتي للمجتمع الماليزي متعدد الأعراق والأديان من مسلمين وصينيين وهنود إلا بالعار لأفراده. القانونيون الماليزيون نظروا إلى أهمية بُعد الردع الجماهيري لغيره ممن تسول له نفسه ارتكاب نفس الجريمة بحق فتاة أو طفلة بجعل الجلد أساساً في العقوبة أمام العامة ووسائل الإعلام. كانت إندونيسيا قد عقدت عزمها على تنفيذ عقوبة الجلد العلني لمن يفطرون في نهار رمضان، وعام 2000كانت مصر المحروسة قد ألغت عقوبة الجلد في السجون المصرية إلى الأبد، ومع اعتراض بعض نواب الأخوان المسلمين وطعنهم في دستورية الإلغاء، إلا أن الأمر قد مضى إلى غير رجعة. صفقت لها لجان حقوق الإنسان، ومع مطالبة إسلاميي الكويت بجلد الأدبار تطبيقاً للشريعة جرى جدل واسع وتهم متبادلة، بينهم وبين الضفة الأخرى، حُسم الأمر أخيراً: أن الشريعة مصدر رئيسي للتشريع وليست المصدر الرئيس! قبائل أفريقيا البدائية وجوعى نيجيريا وعراتها، لم يفقهوا من الإسلام إلا تطبيق عقوبة الجلد والبتر، فاغتبطوا بجهلهم، وفي اليمن قذف رئيس تحرير إحدى الصحف الشيخ الزنداني بتهمة الزنا، فأصدر القاضي حكماً بجلده حد القذف. في كشمير تمارس بعض المناطق الخاضعة للمسلحين الإسلاميين جلد الناس. أما طالبان.. فقد كانت الوكالات تنشر صور رجال الحسبة بعصيهم تنهال على النساء في الأسواق فرادى وجماعات، لقد كن يجلدن دونما ذنب... كالشياه.. في صحيح البخاري أن رجلاً جاء إلى الرسول عليه السلام وأخبره أنه لقي امرأة في الحديقة فنال منها ما يناله الرجل من أهله (قبلها، واحتضنها) غير أنه لم ينكحها (لم يمارس الجنس معها). فقال: أصليت معنا؟ قال: نعم. قال: قد غفر الله لك. وكان في السوق واقفاً مع عمه العباس فمر به مغيث وهو يلاحق بريرة يبكي عشقاً لها وشغفاً بها في السوق أمام الناس، فقال: يا عم، ألا تعجب من حب مغيث لبريرة ومن بغض بريرة له؟! رواه البخاري [email protected]