لابد أن نفساً تتلبد بالغيم وتمطر ستقف في موكب الحزن حائرة أمام موت البنين. والحيرة شعور نبيل باللاجدوى، وطريق معبدة بشوك الأسئلة. وموت البنين ذبول منهجي لمستقبل في لحظة أصبح ماضيا، يتساقط من شجر العمر كأوراق الخريف. وهو سؤال لا نهائي يعيد نفسه: ثم ماذا؟ يصبح الطريق إلى أمس أكثر جاذبية، ففيه تدفن مستقبلاً كان يحمله البنون في عيونهم كصناديق الهدايا: بعضها مفتوح ومبعثر، وبعضها لم يفتح بعد. ستصبح أسماء البنين أماكن. سيحدث أب نفسه وهو في غمرة الفقد: هنا أخبرني أول مرة أن لديه خريطة سرية لعمره، لكن ينقصه كتاب مدرسي للهندسة المعمارية ليختار الجامعة والكلية وأسماء الطرقات التي ستؤدي إلى مكتبه الاستشاري. هناك فتحت بأناملها النحيلة لي ستائر أحلامها آخر مرة، رأيت أسماء أبنائها الذين لم يولدوا بعد. رأيتها جالسة تقرأ لهم قصة قبل النوم: جدكم أطول نخلة في بلادي، وعيناه نافذتان تطلان على البحر. ستصبح أسماء البنين رائحة. ستحدث أمٌ أختها: اسمه رائحة الليل بعد المطر من شرفة بهو الضيوف، لأنه كان يفتح الشرفة بعد المطر ويقرأ عنده كتابا في وصف أفريقيا. اسمها رائحة جاءت من حقل ياسمين ومرت بحقل ذرة توقفنا عنده لتأخذ صورة تذكارية في طريق بين مدينتين. ستصبح أسماء البنين بيوتا تطل على الماضي. ستسأل أخت أختها: لماذا لاسمه مفاتيح كلما مر اسمه بذاكرتي وجدتها في جيبي؟ ستقول الأخت الكبرى: أقيم في اسمه منذ سنة، كل ليلة أنام في غرفة. سيصبح للحنين جغرافيا، وللحزن تضاريس، وستصير للدروب التي لم يسلكوها يد تمتد نحوك: سر إلى آخري يا فلفل الفقد، رويداً رويداً، وتوغل فيّ كما لو كنت أنت همُ، وسر طويلا لست وحدك. فقد تلاقي أبا ذؤيب الهذلي مصادفة وهو على راحلته، فاستوقفه وأنشده عينيته: أمن المنون وريبها تتوجع واسأله عن تجلده للشامتين، وعن أي طريق بعد بنيه سلك؟ وقد تلاقي ابن الرومي فاستوقفه وأنشده داليته: بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي واسأله عن نفس تساقط أنفسا، وعن أي طريق بعد بنيه سلك؟ سيمر عمرك في مرآة أعمارهم كطيف شفيف، فإن ظل عمرك حبيس مراياهم، فعش أعمارهم ولا تتلكأ