هؤلاء هم مجموعة من شعراء الفصحى وآخرون من شعراء الشعبي البدوي، وأميزه بالبدوي لقربه من شعر الفصحى شكلا وبناء ومعايير فنية، وينتشر في كل البلاد العربية إلى جانب شعر شعبي آخر يمثل المجتمع الحضري، والشعر البدوي لا يعني أن مبدعيه من البادية بل هو من نبت البادية، ويتسم هذا الشعر بالفصاحة لا يفصله عن شعر الفصحى غير التزام الأخير بقواعد اللغة العربية (النحو) وخضوعه للصنعة الشعرية الفنية، بينما يتحرر الشعر البدوي من بعض القيود الفنية ملتزماً التلقائية، وصدق التعبير. وهؤلاء الذين اختارهم الأستاذ إبراهيم العميم هم: قيس بن الملوح وقبيله محمد بن عمار الحطيئة ونظيره حميدان الشوهرِ متمم بن نويرهَ وقبيله نمر بن عدوان عمر بن أبي ربيعة ويقابله محسن الهزاني الأعشى وقبيله محمد بن لعبون الخنساء ونظيرتها موضي البرازية ستة من شعراء الفصحى وستة من الشعراء الشعبيين جمعت بينهم المعاناة وفرغوا شحنات عواطفهم شعراً. وعقد المؤلف بينهم مقارنات مستشهدا بقصيدة لكل شاعر، مبينا مواقع الالتقاء بين كل منهم. ولقد شدني موضوع الكتاب الصادر عن دار جداول، لما توقعت من تناوله التعمق في مجال المقارنة والمقاربة، والتحليل الأدبي والاجتماعي لابداع صدر في أزمنة متباعدة وأحوال متفاوتة، وسواء أجاد المؤلف أو لم يحالفه الصواب فذاك من شأن النقاد، أما الفكرة فقد راقت لي وراق لي التناول واستمتعت بقراءة الكتاب، ودفعني ذلك إلى إثارة الموضوع في إطار الأحاديث عن الأدب الشعبي، وأشيد بتوجه جداول لهذه المقاربة الأدبية بين نوعين من الشعر العربي. ولم يكن العميم أول من أشار إلى العلاقة بين شعر الفصحى والشعر الشعبي، فقد تحدث ابن خميس رحمه الله في كتابه: الأدب الشعبي في الجزيرة العربية إذ عقد فيه مقارنات ومقاربات بين هذين النوعين من الشعر كما اتهم الشاعر إيليا أبو ماضي بالسرقة من الشعر الشعبي في قوله: يا أخي لا تشح بوجهك عني ما انا نجمة ولا أنت فرقد أو ما انا فحمة. وذلك من أبيات بدوية لشاعر أردني. على أية حال، كتاب: هؤلاء وشعرية المكان للأستاذ إبراهيم العميم فيه متعة وطرح أتوقع أن يتطور ويزداد شمولية وتحليلاً. إن توارد الخواطر وارد كما يقع الحافر على الحافر عند المتقدمين وقد يكون مرده إلى الصدفة دون علم التالي بسبق من كان قبله، وقد يكون تأثراً بسابق غاب عن الذهن ساعة ابداع التالي، ثم إن الموضوع المستهدف بالتعبير والدوافع المتشابهة عند المبدعين قد تلتقي، فلا عتب ولا لوم، وللمتلقي أن يستمتع بالمفارقات. أعود إلى ابن عمار وقيس، فقد واجه كل منهما معاناة الحرمان ممن يحب لأسباب اجتماعية حالت دون بلوغ كل منهما مناه، وستظل هذه الأسباب قائمة ما لم يتطور الفكر المأسور بقيم لا تنسجم مع منجزات الإنسان الفكرية. وقيمه المتجددة. ليس ضرورياً أن نعرّف بقيس فكل الناس تعرف قيساً وليلى والحب العذري ولكن ابن عمار وليد معاناة قيس إذا فهو من رحاب الحب العذري، وكم أنجبت الصحراء من قيس وأمثاله، وكم أبدعت من حب عذري. ولد ابن عمار في بلدة ثادق من حواضر نجد، كانت ولادته فيما بين عامي 1270 – 1280ه وتوفي عام 1351ه. وقد تعلق في شبابه بحب فتاة لم تسمح القيم الاجتماعية له بالزواج منها، فاعتزل الناس حينا يشارك الطير بوحه، ويدون حبه ومشاعره في قصيدة على نمط "الألفيات". وهو لون شعري لا يعول عليه الشعراء إلا عندما تبلغ معاناتهم مدى بعيداً، ذلك أن هذا اللون الشعري يطول لالتزامه أحرف الهجاء "الالفباء" ويتطلب نفساً شعرياً مديداً بعدد أحرف الهجاء كل بيت من القصيدة يبدأ بحرف متناولاً جزءاً من هم الشاعر، لا يتجاوزه إلى الحرف التالي حتى يشبع هذا الهم تعبيراً إما وصفا أو طلبا أو احتجاجاً لذا قد تطول القصيدة لتفي بغرض الشاعر. ولما كانت الالفبائيات فناً مستقلا في الشعر فإن الشعراء يتفننون في إبداعها مقاطع تزيد على البيتين أو إشارات تقل عنهما. والصعوبة تكمن في تخصيص كل حرف لجزئية من هم الشاعر جزئية لا تتكرر. لذا لا يقدم عليها غير شاعر متمكن، وابن عمار – كما يشير المؤلف – لم يعرف له شعر غير هذه القصيدة وهذا يعني أنه شاعر مبدع لم يثره من الهم الشعري غير معاناته هذه التي دونها وتناقلها الناس رواية وغناء. يثبت ابن عمار أن الشعر الأصيل هو ما ينزل على الإنسان في لحظات معاناته، وهو قادر على التعبير عنها نثراً وخطابة ولكن الشعر هو المميز من الكلام للتعبير النوعي عن المعاناة. عانى ابن عمار فأبدع ألفيته مخلدا مأساته، وراسماً محبوبته كما يراها وكما يحس من وشائج الحب وأواصر العلاقة، عشق يشبه ما كان بين ليلى وقيس وبخاصة في أبيات المقارنة التي اختارها المؤلف كما يلي: قيس: موسومة بالحسن ذات حواسد ان الحسان مظنة للحسد ابن عمار: متنقل بالزين سيد العفايف غندورة فيها من الحور شارات قيس: غرابية الفرعين بدرية السنا ومنظرها بادي الجمال أنيق ابن عمار: من لا منى في حب ذاك الوليف دقاق رمش العين سيد الخوندات قيس: تبسم ليلى عن ثنايا كأنها أقاح بجرعاء المراضين أو در ابن عمار: الثا ثمانه حب رمان طايف أو اقحوان في رياض عطايف قيس: وآية وجد الصب هاطل دمعه ودمع الشجي الصب أعدل شاهد ابن عمار: عليه زرع القلب ها في وظامي ومالى جدا غير البكا والتنهات قيس: خليلي وإن ضنوا بليلى فقربا لي النعش والأكفان واستغفرا ليا ابن عمار: هاتوا استاد القبر دنوا نصايب دنوا دواة الحبر نكتب سجلات قيس: أصلي فما أدري إذا ما ذكرتها أثنتين صليت الضحى أم ثمانيا ابن عمار: ألهيتني عن مذهب اللي يصلون ما عاد اميز لو قرن التحيات قيس: فلا خير في الدنيا إذا لم تزر حبيبا ولم يطرب إليك حبيب ابن عمار: لا شفت زوله ذاك هو يوم عيدي وتصبح بساتين الضماير مريفات إلى آخر الأبيات المتشابهة تشابه المعاناتين لدى الشاعرين. وإذا كان من ملاحظة على المؤلف فإنها تقتصر على أمور لا ترقى للنقد الذي يقلل من أهمية الكتاب، وهي تقتصر على مخالفة بعض الأبيات الاستشهادية نصاً عن الأبيات في القصيدة التي اختتم بها كتابه، وقد أحسن حين أورد ألفية ابن عمار والشعراء الشعبيين الآخرين. شكراً للكاتب ولجداول ودعوة صادقة لقراءة الكتاب: هؤلاء... وشعرية المكان. ولعل من المناسب ذكر مطلع ألفية ابن عمار وهو: ألفٍ أو لف من كلام نظيفِ ودموع عيني فوق خدي ذريفِ من لا مني في حب ذاك الوليفِ دقاق رَش العين سيد الخوندات خوندات يا اللي ما بعد عاشرنه قل له تراهن في الهوى يذبحنه قلبي وقلبك من عروقه خذنه عزي لمن مثلى تعرض للافات * * * البا بليت بحب خلي على ماش ولا حصل منه ما يبرد الجاش غديت انا واياه طاسة ومنقاش بالوصف كنّى يا المعزي سلامات ثم يبدأ بوصف معشوقته بعد أن صور هواه وحالته فيقول: الثا ثمانه حب رمان طايف او اقحوان في رياض عطايف متنقّلٍ بالزين سيد العفايف عمهوجة فيها من الحور شارات شارات فيها من ظبَيْ الحمادي هي لذة الدنيا وغاية مرادي من يوم قَفَّى صاحبي من بلادي عليه جاوبت الحمايم بالاصوات ابن خميس إيليا أبو ماضي عبدالرحيم الأحمدي