اللحظة التاريخية التي يعيشها العالم العربي اليوم حساسة ومليئة بالكثير من التحديات، ولا يمكن مواجهة هذه التحديات ومقتضيات اللحظة التاريخية، إلا بإعادة تصويب بوصلة العالم العربي نحو الشراكة والتنمية وبناء القوة العربية على أسس أكثر صلابة وقدرة على الاستمرار والإبداع لو تأملنا في طبيعة التطورات والأحداث والتحولات التي تجري في العالم العربي على أكثر من صعيد، نكتشف أن هناك قوتين أساسيتين تتحكمان في مسار الأحداث، وتساهمان بطريقة أو بأخرى في دفع التطورات نحو مآلات محددة. ويبدو أن فهم ميكانيزمات عمل هذه القوى، يجعلنا نفهم بشكل عميق طبيعة التطورات واتجاهاتها المستقبلية. وهذه القوى هي الآتي: القوى الأولى يمكن تسميتها بقوى التنابذ في العالم العربي. وهي القوى التي لا تفكر إلا في ذاتها ومصالحها الضيقة، وهي القوى التي تسعى نحو تضييق مسار المشاركة في الشأن العام، وهي التي تبحث عن الفروقات مع غيرها دون المشتركات، وهي التي تبحث عن وطن ومجتمع على مقاسها، وتسعى بكل إمكاناتها وقواتها صوب أن يكون العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه وفق رؤية أحادية ضيقة. ويمكن أن نحدد سمات هذه القوى النابذة في السمات التالية: إن هذه القوى سواء كانت دينية أم سياسية، لا تعترف بالتعدد والتنوع في المجتمع الإنساني، وتعمل على طمس كل معالم وحقائق التعدد، وتحارب كل أشكال التنوع. وترى أن قوة المجتمع في قسره على رأي واحد، ومنهج واحد.. ولا شك أن هناك قوى دينية وثقافية تحارب التعدد وتنبذ التنوع، وتستخدم كل إمكاناتها في سبيل دحر الخصوصيات المذهبية والثقافية لصالح خصوصية غالبة واحدة. كما أن هناك قوى سياسية تؤمن بذات الخيار وتستخدم جميع قدراتها بحيث لا يكون في المشهد العام إلا رأيها وخيارها الوحيد. وحينما تتكاتف القوى الدينية مع القوى السياسية في قسر الناس على رأي واحد وقناعة واحدة، تصبح هذه القوى النابذة مؤثرة على راهن العرب ومستقبلهم. وعلى ضوء هذا فإن هذه القوى لا تحفل بالتنوع، ولا تعمل على حماية التعدد، وتكافح بكل جهدها صوب تصحير المجتمعات العربية. ولعل السمة الثانية لهذه القوى أنها تستخدم العنف المادي أو المعنوي لفرض قناعاتها وخياراتها. فكل من يختلف معهم هو خارج نطاق الطريق المستقيم، وبه عيوب دينية وثقافية، وأنه بفعل هذه العيوب اتخذ موقفاً مضاداً لها. ولا تتورع هذه القوى عن استخدام العنف ببعديه المادي والمعنوي ضد من يختلف معها. لذلك فإننا نحمل في هذا السياق الكثير من ظواهر العنف التي تشهدها العديد من البلدان العربية هذه القوى النابذة، لأنها تستسهل اللجوء إلى العنف لإنهاء خلافاتها مع الآخرين وفرص خياراتها الدينية والسياسية على مجتمعها. كما أن هذه القوى تساهم في تنمية نزعة التوحش في العمل السياسي والعام. كما أن من سمات هذه القوى أنها لا تعترف بحقيقة الأوطان المعاصرة. فهي مع أوطانها ما دامت تسير في كنفها، أما إذا أصبحت خيارات الأوطان بعيدة عن خياراتها، فهي تتحول إلى قوة غاشمة ضد الوطن والمواطنين. فقوى التنابذ والمفاصلة الشعورية، بصرف النظر عن أيدلوجيتها وخطابها الشعبوي ويافطات تعبئتها الداخلية، لا تفكر إلا في مصالحها الضيقة، وهي على استعداد تام للتضحية بكل شيء في سبيل مصالحها الخاصة. وبفعل هذا السلوك نستطيع القول: إن من أبرز الأخطار التي تواجه العالم العربي في أمنه واستقراره، هو في تمكن قوى التنابذ من السيطرة على مقاليد الأمور والتحكم في مسار الأحداث الكبرى في العالم العربي. وفي مقابل هذه القوى التي أسميناها مع اختلاف أيدلوجياتها بقوى التنابذ، هناك قوى أخرى نسميها بقوى الاستقطاب والتجاذب، وهي مجموع المشاريع والجماعات التي تعمل انطلاقا من رؤيتها الفكرية والسياسية، إلى توحيد جهود العالم العربي، وتربأ بنفسها في كل اللحظات أن تكون مساهمة في تأزيم الأوضاع في العالم العربي، أو توتير العلاقة الداخلية بين مختلف أطياف العالم العربي. فهي قوى توحيدية ووحدوية، ترفض الوقوع في مهاوي النزاعات الطائفية والمذهبية، وتعمل باستمرار لتجاوز هذه المحن الداخلية التي تواجه العرب والمسلمين. ولعل من أهم سمات قوى التجاذب في العالم العربي أنها قوى تحترم حقائق التعدد والتنوع في الاجتماع العربي، وتعمل من أجل صياغة نظام سياسي واجتماعي قادر على إدارة التنوع على نحو حضاري، بعيدا عن نزعات الاستئصال أو طموحات التوحيد القسري للناس.. فالتعدد والتنوع في العالم العربي، ليس عيبا يجب إخفاؤه، وإنما هو مصدر قوة وثراء إذا أحسن الجميع إدارته والتعامل معه بعقلية استيعابية. وقوى التجاذب لا تنظر إلى الوحدة بعيدا عن احترام حقائق التعدد، بل ترى أن طريق بناء وحدة وطنية واجتماعية صلبة، هو في صياغة علاقة إيجابية بين جميع مكونات الوطن والمجتمع. كما أن من سمات القوى الجاذبة أنها قوى سلمية، تنبذ العنف وتراه من المخاطر التي تهدد أمن واستقرار الأوطان والمجتمعات. وتدعو هذه القوى جميع الأطراف في العالم العربي، إلى رفع الغطاء الديني والسياسي والاجتماعي عن كل نزعات العنف. لأنها من النزعات التي تهدد الجميع، وعلى الجميع أن يتخذ موقفا صريحا وواضحا منها.. فالعنف لا يحقق الأهداف السياسية والاجتماعية، وإنما يدشن إلى مرحلة السقوط السريع في مهاوي الفوضى والاحتراب الداخلي. وإن الجهات التي تتوسل العنف بوصفه أحد وسائل تغيير المعادلات، فإن هذه الجهات ستدخل العالم العربي في أتون الفوضى التي تدمر كل شيء. لذلك فإن قوى الجذب والاستقطاب تقف موقفا مضادا من خيارات العنف، وتدعو الجميع إلى نبذ هذا الخيار وتجفيف منابعه وعدم توفير غطاء إليه. ومن سمات هذه القوى أنها تشاركية وترفض نزعات الاستحواذ، لإيمانها العميق أن أوضاع العالم العربي، تحتاج إلى جميع الجهود والطاقات، وأن الساحة تتسع جميع القوى والمكونات. وعلى ضوء هذا الإيمان فهي باستمرار تعمل من أجل خلق توافقات وتحالفات عميقة بين تعبيرات الوطن والمجتمع، وصولا لبناء كتلة متجانسة تعمل من اجل معالجة مشاكل العالم العربي الجوهرية، وتؤسس لوقائع وحقائق جديدة، تخرج العالم العربي من أتون الصراعات العبثية وجمود أوضاعها السياسية والاجتماعية. وما يعيشه العالم العربي اليوم، هو في أحد صوره وأشكاله، صراع بين قوى النبذ وقوى الجذب، وتتوسل هذه القوى بجميع إمكاناتها وقدراتها لحسم الصراع لصالحها. وإن سيطرة قوى النبذ على الأمور، يعني خضوع العالم العربي لموجة جديدة من الجمود والإحباط، الذي يخرج مساحات اجتماعية واسعة من العالم العربي من الفعل التاريخي الايجابي، كما أن هذه السيطرة ستؤبد المشكلات المزمنة التي يعاني منها العالم العربي. لذلك فإن المستقبل العربي المنظور، مرهون إلى حد بعيد على طبيعة اتجاهات الصراع بين هاتين القوتين. وكلنا أمل أن يخرج العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه من جموده ووهدته وينطلق في رحاب البناء والتنمية وفق رؤية حضارية تحترم التعدد وتحميه، وتوجه جميع القدرات صوب البناء بعيدا عن نزعات الهدم والتدمير، وتؤسس لعلاقة متكافئة بين دول الإقليم والعالم. فاللحظة التاريخية التي يعيشها العالم العربي اليوم حساسة ومليئة بالكثير من التحديات، ولا يمكن مواجهة هذه التحديات ومقتضيات اللحظة التاريخية، إلا بإعادة تصويب بوصلة العالم العربي نحو الشراكة والتنمية وبناء القوة العربية على أسس أكثر صلابة وقدرة على الاستمرار والإبداع.