لكل قناة تلفزيونية في هذا الكون الفسيح مرجعية، ولها حدود لحريتها النسبية، ولا يمكن أن يتصور عاقل أن وسيلة إعلامية ما لامرجعية لها إلا إذا كانت الوسيلة تملك قرار الدولة السيادي، وفي هذه الحالة فإن مجلس الأمن هو مرجع هذه القناة. عطش المشاهد والمتلقي العربي للرأي والرأي الآخر قبل قناة الجزيرة كان شديدا، وعندما دخلت القناة المشهد الإعلامي وجدت قبولا وترحيبا كبيرين فقد أروت العطشى وزادت على ذلك بطبق من جلد الذات يناسب الذائقة العربية. ولأن الانطباع الأول يدوم فقد رسّخت القناة سمعتها على أنها الناطق الإعلامي باسم الإنسان ومنبر من لا منبر له. وأعمى وهجها الأبصار فلم يكن ممكنا إقناع المتلقين بأنها تروي عطشهم سُما كالذي أمات الرئيس عرفات –رحمه الله- ببطء. وشيئا فشيئا أخذت القناة تتوسع إلى أن ابتلعت دولة بأكلمها، وأصبح المتحكم في القرار الرسمي مجموعة من النجوم الذين تربوا على أعين الموساد، وMI6 البريطاني، وCIA، وبذلك كانت القناة التي تجمع تحت سقف واحد د. عزمي بشارة، والشيخ يوسف القرضاوي، وشبيبة تلفزيون بي بي سي العربي، الذين فصلوا بعد توقف قناتهم عن البث من لندن بسبب يرون أنه سعودي، والدكتور محمد الأحمري أحدث حاملي الجنسية القطرية، والذي خدم في الولاياتالمتحدة مدة طويلة وعاد مبشرا بالديمقراطية بعد 2001م، وجملة من عيون الولاياتالمتحدةالأمريكية وعقولها التي بثت في بعض العواصم لرصد الحراك الذي ترى أمريكا أنه يضر بمصالحها. القناة منذ انطلاقتها وهي تكتسح العالم العربي وتستهدف المتلقين العرب أينما كانوا محققة شعبية كبيرة وشهرة جمّلت تناقضاتها، مسخّرة جهازا دعائيا نخبويا قادرا على تسويقها على الرغم من فتكها بثوابت لم تكن في يوم من الايام مثار نقاش خاصة في إعلام ينتمي لدول مجلس التعاون الخليجي؛ فهي القناة العربية الأولى التي فتحت الباب على مصراعيه لوجهة النظر الإسرائيلية حتى أصبح الخبراء الإسرائيليون من أهل الدار، بما في ذلك من كسر المقاومة المعنوية للاحتلال، والحقت ضررا بالقضية الأولى للعرب والمسلمين في وقت يُخيّل لكثير من المتلقين أنها القناة الوحيدة التي ناصرت تلك القضية بتبنيها قيادات حماس. أن تتمكن قناة من شتم السياسات الخارجية الأمريكية، وتسليط الضوء على انتهاكات أمريكا لحقوق الإنسان، وأن تبرز قيادات القاعدة وطالبان وتبث رسائلهم، وفي الوقت نفسه تحظى بأفضلية لدى صانع القرار الأمريكي، وتبث من دولة ذات علاقات وطيدة بالمصالح الأمريكية وتستضيف أكبر قاعدة أمريكية في الخارج، ولا يثير كل هذا التناقض سؤالا عن سر تلك الخلطة السرية، فذلك محل استفسارات كبرى لم تُسأل في الوقت المناسب. ظاهرة "الجزيرة" استطاعت بخصوبة الشارع العربي أن تصنع بيئة مواتية للربيع العربي فكان لها ذلك وأسهمت فيه بشكل لا ينكره عاقل، لكننا في الوقت ذاته لم نسأل عن الدعم اللوجستي والسياسي لرسالة الجزيرة؟ تتذكرون حلقات الأستاذ محمد حسنين هيكل وحوارات برنامج شاهد على العصر، وبرنامج الاتجاه المعاكس وكيف عملت على مدى سنوات على تقويض أركان الدولتين المصرية والتونسية وغيرهما من الملكيات في العالم العربي، مطعمة ذلك بفتاوى وبرامج تعزز وتمكن للتأثير الإخواني في تلك الدول، ثم ما لبثت أن تخلصت من هيكل بعد أن أدى دوره في مشروعها، وجاءت بالدكتور عزمي بشارة ومررت على المشاهدين تناقضا صارخا تمثل في جلوس سعودي وإسرائيلي (الدكتور عزمي بشارة والأستاذ علي الظفيري) على طاولة واحدة يناقشان قضايانا بعمق، دون أن يستنكر ذلك أحد. وذات مرة استضافت القناة جنرالا إسرائيليا سابقا في نشرة الأخبار الرئيسة، وتُركت له الشاشة لنقد الجزيرة ودولة قطر في لغة لم أشاهدها مطلقا من قبل على القناة. لكنه أثناء ذلك مرر ما لم يكن ممكنا تمريره من ذي قبل؛ فقد وصف العرب بأنهم حيوانات، وأن إسرائيل كانت في القدس منذ 3 آلاف سنة، عندما كان العرب يعاقرون الخمر ويئدون البنات، وتوج الجزيرة على أنها المتحدث الرسمي باسم الإخوان المسلمين، وأنها تروج للرسائل التكفيرية والإرهابية. وبذلك استبقت الجزيرة الزمن لتصنف أي ناقد للجزيرة أو الإخوان المسلمين أو الجماعات المتطرفة على أنه مصطف إلى جانب الإسرائيليين في عداوتهم للمواطن العربي الذي يتطلع لأخذ حقوقه من قادته (الدكتاتوريين). وفي مشهد صارخ في التناقض فإن مذيعة الجزيرة هاجمت بشراسة الصحفي السعودي سلمان الدوسري عندما دافع عن قرار الدول الخليجية الثلاث بسحب سفرائها طالبة منه بحدة غير معتادة أن يثبت اتهاماته لقطر وللجزيرة، في وقت مررت كل ما قاله الجنرال الإسرائيلي بدون تدخل من المذيع. الجزيرة ابتلعت دولة قطر، واختطفت قرارها، ونفخت في ذات بشرية ناقصة ما صدقته وتصرفت على أساسه متجاهلة مصالح شعبها، وأمن أوطان تربطها بشعب قطر مصائر مشتركة. وسيبقى الشعب القطري أهلاً وعشيرة.