من قال إنّ الجدران لا تتحدث، إنها لا تقول شيئاً، إنها كائنات إسمنتية خالية من الحياة ومن حق الكلام، ومن كل الأشياء الأخرى، من يقول ذلك مخطئ بالتأكيد، ولم يشاهد في حياته سوى جدران بيته وغرفته الصغيرة، إنها تقول أشياء عجزنا عن قولها غالباً، أشياء أردنا أن نكتبها بكامل صدقنا لكننا نسينا ولم نتذكر بعد ذلك؛ لأننا غرقنا في تفاصيل حياتنا اليومية التي جعلتنا لا نستشعر حديث الجمادات وحياتها الخاصة. في أحد شوارع فلسطين تجد هذه العبارة تصرخ على الجدار، التي تقول:" ونحن لم نكن نحلم سوى بحياةٍ كالحياة" تجدها بكامل قوتها شاهداً على رغبة شعب كامل بل أمة في الحصول على أدنى مستويات العيش وكرامته، تجدها مكتوبة بطريقة لائقة، مكتوبة لتخبرك بأسلوبها الخاص عن حق الحياة المسلوب من أبناء تلك المنطقة المحتلة، عن أطفال ونساء ورجال وعجائز وشباب ألغاهُم المحتل ليؤسس دولته دون أدنى شرعية إنسانية ولا حتى دولية. هذه العبارة ليست الوحيدة في شوارع فلسطين، إن جدرانها مليئة بالشعور الفائض بالأمل والألم في نفس الوقت، حيث تجد- أيضاً - في شوارع فلسطين وتحديداً أكثر على الجدار العازل في الضفة الغربية الذي وضعه الإسرائيليون ليمنعوا دخول الفلسطينيّن إلى فلسطين كما يقولون بهدف إعاقة حياتهم وتقطيع أرضهم بطغيان سافر، تجد على هذا الجدار العازل "هنا بشر بحاجة إلى الحياة" ليأتي شخصٌ آخر ويكتب في الأسفل تعبيراً عن إعجابه "الله" وكأنهم نسيوا حقهم في الحياة فكان على الجدران أن تذكرهم به! على الجدران وفي مختلف الدول العربية تجد رؤى الإنسان المختلفة، تجد المتشائم، الساخر، العاشق، الحالم، الحكيم، الشاعر، تجد ما لا تجده أحياناً في مطويات مكتبك الخاصة، أو في دفتر ملاحظاتك "استمر في الضحك...قريباً ستموت" هذا ما تقوله إحدى الجدران الساخرة بحزن، لتعيد لأذهاننا المسألة البشرية الأولى، التي أقلقته لأعوام طويلة ولتاريخ واسع وممتد، تقوله بسخرية جادة من أجل تذكيرنا بالموت المتربص بنا، لتعيدنا إلى التفكير في المستقبل والخوف من هذا الرحيل الأخير والطريقة التي سنكون عليها ونحن نلفظ أنفاسنا الأخيرة. ثمة جدار آخر يحضنا على الإنسانية، يحضنا على نبذ الاختلافات والاقتتال من أجل أيدلوجياتنا ومذاهبنا التي يزعم كل منا بأنها الحقيقة المطلقة "كلنا إنسان.. كلنا إنسان" هذا ما تقوله بكل اختصار تعبيراً عن هذه الأزمة، وكأننا تجاهلنا هذا الخاصية البديهية فذكرتنا بها الأشياء التي لم تكن يوماً إنساناً! كذلك الحروب، روائح البارود، الجثث، الأطفال الذين تعبوا من الصراخ دون أن يستمع لهم أحد، والطائرات بزفيرها الذي يكسر هدوء السماء وانسجامها لترسل قنابلها العنقودية ومتفجراتها علينا من فوق فيموت البشر ويتلوث الماء والحصاد وتحترق كل الحكايات الجميلة، فكل ذلك البؤس تقف الجدران في وجهه بصرامة قائلة: "عندما تختفي الطائرات تطير الحمامات.. بيضاء.. بيضاء" وكأن العصافير والحمامات بألوانها المختلفة، سئمت من سطوت الإنسان وهدمه لهذا الكوكب بمتفجراته وقنابله التي تسقط ليلاً نهاراً على كل شيء. وحين نريد أن نفهم، ونعيّ دلالات كل هذه الجداريات - إن صح التعبير - نجد أن المدرسة السيميائية تسعفنا على ذلك؛ حيث تؤمن بأن هذه العلامات لها قدرتها التواصلية المكثفة، إنها تعبير صارخ عن المكونات والأفكار الإنسانية الملحة والمتكررة، عن الأشياء التي عجز عن تعبيرها، وعن قولها للآخرين بسبب القيود الاجتماعية والأيديولوجية، بل إن تلك العبارات تخضع للتركيز الدلالي، إنها تقدم أشياء كثيرة وتقول ما لا تقوله ضمنياً بسبب قلت مكوناتها الكلامية. إنها أفكار خرجت في وقتها الحاسم، وإن لم تكن على الجدار، فإنها ستكون في أماكن أخرى، ستكون على الورق، أو حتى على ثوب أو بنطال تماماً كما يقول الشاعر لقمان ديركي: لا تطلب قلماً من أحد ولا تطلب ورقة أكتب على كفّكَ على وجه صديقتكَ على الجدار على بنطال.. بجانبكَ اكتب على أي شيء كأنما الصينيون لم يخترعوا الورق! لا يمكن أن نتجاهل - أيضاً - ما تقوله الجدران تجاه أزمة الإنسان، شعوره بأن الأخلاق ماتت، تألمه لأجل المنهكيّن من الحياة وإحساسه العميق بالعجز " أنا يا أصدقائي متعبٌ بإنسانيتي.. فهل الإنسانية لعنة وعقابُ؟" كُتب هذا البيت النيزاري والناري على جدار إحدى المدارس وكأنه هو الدرس التربوي الأهم، الذي على كل الأجيال أن تتعلمه، إنه دعوه لإعلان موت الإنسان، وفي نفس الوقت إنه دعوه لإعادة إحيائه، كذلك احتياجنا المطرد إلى الفن، وتحديداً أكثر إلى الموسيقى، التي قال عنها هرمان هسه في روايته "لعبة الكريات الزجاجية" بأنها همزة الوصل بين عالم المادة وعالم الروح.. هذا الاحتياج تم التعبير عنه فالموسيقى وكما يقول أحد الجدران لا تؤذي أحداً!.