إن المسلم لا يملك عندما تحل به مصيبة الموت بأحد أعزائه إلا أن يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، اللهم آجرني في مصيبتي وأخلفني خيرا منها. وقبل أيام أصبت بأعظم المصائب التي مرت علي في حياتي عندما انتقلت والدتي - نورة بنت محمد المحيميد - إلى رحمة الله جل وعلا. كيف لا أحزن؟ وهي التي حملتني كرها على كره وقامت على تربيتي وإخواتي لوفاة الوالد – رحمه الله – وعمري لا يتجاوز السنتين. كدت وكدحت من أجلنا وحرمت نفسها ملذات الدنيا ومتاعها لأجلنا. عمري شارف الخمسين عاما ولم أرها يوماً لابسة شيئا على عنقها أو في آذانها أو في يدها مؤثرة ذلك لأجل إسعادنا. نعم أقسم ولا أحنث أني لا أعلم أن رجلًا أو امرأة عانت من التعب والمكدة مثلها لأجل أن توفر اللقمة لأبنائها. رضيت أن تكتفي من الدنيا بالقليل حتى بعد أن أنعم الله علينا وسكنا بمنزل واسع فيه بعض أشجار النخيل أبت إلا أن يكون مجلسها ومطرحها بينها رافضة التنعم والسكن داخل المباني مع شدة الإلحاح عليها. وعندما تقدم عمرها وقلت حركتها رفضت إلا أن تعيش بحجرة في فناء المنزل - ماتت رحمها الله - ولم تبق من حطام الدنيا إلا ريالًا واحداً ربما لا تعلم عنه كانت سخية تهدي ما بيدها ولا تبقي عندها شيئاً. تفرح أنها تهب تكاد ترقص فرحاً عندما تقدم الطعام لضيوفها. وعندما فقدت ذاكرتها كانت إذا سمعت أن عندها أحد تقول : هل أعددتم لهم الطعام؟ كانت تتلمس ما حولها لتبحث عن مبلغ لتهديه للجالسين خاصة الأطفال. نعم تفعل ذلك وهي فاقدة الذاكرة لأنها عاشت على ذلك. نعم، أعلم أن الموت حق ولا مفر منه لكني موقن أنها كانت الحاجز لي بإذن الله من كثير من المصائب بسبب دعائها وتضرعها لله بأن يوفق أبناءها ويكفيهم شرور الدنيا. وهي ليس حاجزا فقط، بل هي بعد توفيق الله الجالب لكثير من النعم التي أنعم بها بسبب دعائها لأبنائها. فبموتها انكسر الحاجز فرحمها الله رحمة واسعة. نعم تجاوزت الخامسة والتسعين عاما ولا أعلم أنها حملت في قلبها عتابا على أحد مرددة أنها مبيحة كل أحد. ماتت وكل من سمع عنها تذكر لطفها وكرمها وأخلاقها. نعم ماتت وهي فاقدة للذاكرة ولكن تفرح وتسر عندما أقول لها: يا والدتي. ثم قطف ثمار النخيل ووزعت على الأقارب والجيران. وكثيرا ما تسأل : هل قطعتم ثمار النخيل ووزعتموه على الجيران. كيف لا تردد ذلك؟ وهي التي أقسمت ألا يجلب للسوق ثمرة واحدة من ثمار النخيل أو غيره. نعم، إنها عاشت لعبادة ربها ثم لتربية أبنائها حيث أنها وهي فاقدة الذاكرة تلهج بذكر الله والاستغفار. كنت فخورا دائما بدعائها موقنا أنه الحاجز عن كثير من المصائب والجالب لكثير من النعم. نعم توفيت أمي فهل أعزي نفسي أو إخواني أم أبنائي أو أحفادها أو زوجتي التي كانت تعتبرها ابنة لها وهي تعتبرها أما حنونة فكانت من أشد الناس حزنا على وفاتها رحمها الله. وفي الختام أغبط كل من كان والداه على قيد الحياة أو أحدهما، وأوصيه بأن يتدارك برهما قبل الفوات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم.