الكسرة فن شعري حجازي النشأة. ولن نبخس القارئ وقته في التنظير والتقديم للكسرة، حيث تناولت ذلك كتب كثيرة وآراء إعلامية متعددة، وسينحصر طرحنا على نماذج من الرد والمراسلة مما ورد في كتاب «مختارات من روائع الكسرات» لمؤلفه الأستاذ يس منصور أبو هبرة، الذي أورد مراسلات قديمة ومعاصرة قدم لها تقديما موجزا، وأورد مناسبات وموضوعات ومثيراتها دون إطالة. ولقد أثار في الكتاب أموراً فنية وأخرى موضوعية، فالفنية تجاوز الكسرة المعروفة بالإيجاز إلى أكثر من بيتين، وهذا ينفي عن الكسرة عنصراً هاماً من أدبيتها وهو الإيجاز، أما الموضوعية فالمحتوى من المعنى عندما يكون تعبيراً عن معاناة أو لفتا إلى حكمة، والكسرة التالية لأبي مدهون من ذلك النسيج الذي يتجدد مع الأيام: يا وَيْلكم مقبلات ايام مرّة وفيها الحموضية الآن نبكي زمان العام ومن عاش نبكي على ذيّة هذه الكسرة قيلت قبل أكثر من مائة سنة، وموضوعها تبدل القيم الاجتماعية التي تتمسك بها الأجيال عند ما تظهر ملامح زمن جديد مختلف يتهدد العادات والتقاليد والقيم المرعية في المجتمع وتلك سنة الحياة. والكسرة ربما رويت خلاف ذلك ولكن جوهر المعنى لا يختلف في كل الروايات، وربما كانت «الآن» اليوم، وربما كتبت «من عاش» منعاش مصطلحا للعام التالي، فمن فصل من عن عاش اضطر إلى ابدال الفعل «نبكي» إلى «يبكي». ولكن السؤال الذي يطرح اليوم وقد اتسع مفهوم المجتمع والوطن وكثرت المتغيرات هو: كيف نقرأ اليوم هذه الكسرة القديمة؟ وهو متروك للقارئ. يشير المؤلف إلى تفوق الكسرة الينبعاوية، ومعه الحق في ذلك فهذا المجتمع الينبعاوي احتفى بالكسرة وجعلها أدب الحوار في ملاعب الرديح، ملتزماً بأصولها من حيث الإيجاز والتشكيل وعدم تجاوز البيتين، والارتفاع بها بين فنون الشعر الشعبي هذا التوظيف ساهم في تفوق الكسرة الينبعاوية، يضاف إليه ثقافة المجتمع الينبعي من حيث التعليم والثقافة وحرص شعرائه على اكتمال الشعرية في حواراتهم مضمونا وتعبيرا. ورغم جمال المقطوعات الشعرية التي لا تلتقي مع الكسرة في غير الوزن – مما أورد المؤلف – إلا أنها تتمتع بشعرية جميلة لا يتحاوزها القارئ دون أن يتذوقها انبهاراً بها وببنائها الفني والمضموني، ولن أتطرق هنا إلى شيء من ذلك باعتبارها مقطوعات شعرية ليست من الكسرة، مهما اعتبرها آخرون كسرة. ومهما كان موسيقار الكسرة أبو كرسوم يطيل في مراسلاته الشعرية وبعض كسراته فذلك شيء آخر. والمراسلات قد تكون من مدينة لأخرى وهذا يتطلب المقدمات والتفصيل منعا للسؤال والاستفسار عن الموضوع المثار فتتكون الكسرة هنا من مقدمة وكسرة. وقد تكون المراسلة طرح كسرة يجيب عن تساؤلها كل من اطلع عليها ووجد إجابة عن تساؤلاتها. من بين التساؤلات قول الشاعر محمد عودة: قلبي وروحي وأيضا الطرف في مزايم الود مختلفين الطرف راضي بحكم العرف وذَوْليك للمحكمة باغين وهنا يرجح الشاعر همام القايدي الذهاب للمحكمة فحكمها هو الفصل فيقول: يا اهل المثل يا رباب العرف اللي مع الحق يبغى يبين والمدعي بالبطل يوقف والشرع يحكم على التقنين وفي تساؤل من الشاعر محمد الأمير عن حدود المحبة فيقول: من ضمن الاقوال قلنا قيل ونبغى من اهل المودة رد لأن باسجله تسجيل هل ينلحق للمودة حد فيثير هذا التساؤل الشاعر حميدي الحبيشي ليقول: تكريم للمشتكي تجليل من وفد له في المودة عهد على المعنّى كتب تنكيل والكل يسعى ولا ورّد إذاً ليس للمودة حدود، كلما نيل منها استزيد. ويبدو أن الشاعر ابو كرسوم غادر القرية إلى المدينة، وفي مروره بين مبانيها العالية سمع صوت هديل حمام في الروشان فشده الصوت المترنم بألحاق المجرور ذلك الغناء الجميل فقال: لحظة سمعت الحمام ينوح صوته عَجَبْ واللحف مجرور نقَّضْ عليّه جميع جروح وانا غريب الوطن مقهور فأثارت شكواه الشاعر محمد الأمير الذي اكتسب لقب الأمير من شعراء زمنه لأن الشعراء نصبوه أميرا ومرجعاً ناقدا لاجازة الكسرات فقال رداً على كسرة أبي كرسوم: هذه عاداته حمام الدَّوح المرتفع في أعالي قصور لا لج صوته شجى الأرواح واحيا الغرام الذي مقصور والشاعران العملاقان أحمد الكرنب وعايد القرشي اللذان شغلا ملاعب الرديح زمنا طويلا وابدعا فيه أيما ابداع يشكو الكرنب للقرشي قائلا: غرامنا في الهوى كيّاد لا يحن قلبه ولا يرحم وان قلت عفواً عليّه زاد ما كنّه الاّ حجر من صم ويبدو أن الآخر يشكو المعاملة ذاتها حيث يجيب قائلاً: كلاّتنا في طرد وعناد مثلك غرامي ساقي سم راعيه داي معه في جهاد ولازم لاجل يعزمه يغرم والشاعر عواد الشعابي يبين ضروب الحب، فمنه الهين اللين ومنه الآمر المستحكم المتمكن، فعندما تساءل الشاعر الكرنب قائلاً: ما قلت يا صاحبي ما باس ولا مسا الخير يا ودادي لما سقاني الغرام الكاس مسموم وانا احسبه عادي يجيب الشعابي قائلا: والله الهوى يا أخي أجناس وما عمر بحر الهوى هادي وما دمت في ذمّة الحبّاس ما تنسمعْ قَدْ ما تنادي والمراسلات لون من الحوار حول موضوعات يثيرها المتحاورون والمتسائلون إما أن تكون مباشرة بين طرفين متواجهين أو يسائل أحدهما الآخر برسالة، أو أن تكون حواراً مفتوحاً يشارك فيه من يجد إجابة محتملة أو رأياً مطروحاً. وما ذكرنا من نماذج قد يكون من بينها ما اختير من حوارات الرديح. وكتاب يس أبو هبرة كتاب طريف وفيه من الطرح ما يثري معرفة القارئ، وما يجلب له المتعة. وقد أحسن المؤلف تقسيم أبواب الكتاب بحسه الفني فهو شاعر وفنان تشكيلي ذواقة للفنون والإبداع.