لا تفتأ الصحف تمطرنا بين يوم وآخر بسيل من احتجاج التجار ورجال الأعمال على القرارات التي وضعتها الدولة لتصحيح أوضاع العمالة المخالفة لأنظمة العمل والإقامة، فمن مهدد بإيقاف العمل في المشاريع الكبرى والحيوية احتجاجاً على ترحيل العمالة التي كان يستخدمها، متحدياً أوامر الدولة بعدم تشغيلها، إلى ثان يهدد بالرحيل ونقل أعماله إلى دول الخليج، وثالث يهدد بترك التمور في أكمامها إذا لم توفر له العمالة التي يحتاجها، لأنه كان يعتمد على العمالة السائبة، ناهيكم عمّن يهدد برفع الأسعار والرسوم كملاك المدارس. لا تخلو هذه المنظومة من ممارسات غير إنسانية، وغير وطنية، من احتكار للسلع والخدمات والمقاولات، ومغالاة في الأسعار، ومحاولات الاستفادة القصوى من المناخ الاستثماري الحر الذي تقدمه الدولة فلا ضرائب ولا قيود على ممارسة النشاط التجاري، علاوة على الدعم غير المحدود الذي تقدمه الدولة للسلع وللأنشطة التجارية، دون أن يوازي ذلك تقديم مقابل ولو بسيط للمجتمع، حتى بدا التجار ورجال الأعمال في بلادنا كالنار كلما امتلأت قالت هل من مزيد! ومع أن ترحيل العمالة السائبة قرار سيادي يتعلق بأمن الوطن، وبحق المواطنين في الحصول على فرص عمل يزاحمهم عليها الوافدون، فإن رجال الأعمال لم ينظروا إلى النواحي الإيجابية للقرار، بل نظروا إلى علاقته بمصالحهم الخاصة. فماذا يريد هؤلاء؟ هل يريدون ترك الحبل على الغارب لكل وافد إن بشكل نظامي أم بغيره؟ ألا يعنيهم أمن الوطن؟ ثم ما مدى التزامهم بالسعودة؟ وما مساهمتهم في المسؤولية الاجتماعية؟ وكانت اللجنة الوطنية للمقاولين (قد قدرت نسبة المشاريع التي تأخر تنفيذها في السعودية بنحو 90٪ في المائة من إجمالي المشاريع. وأرجعت اللجنة أسباب التأخير إلى النقص الحاد في العمالة البالغ أكثر من مليون عامل، وأن 80٪ من شركات المقاولات معرضة للإفلاس، بسبب رفع رواتب السعوديين إلى 3 آلاف ريال، وهذا رفع التكلفة على الشركات والمؤسسات ما نسبته 2٪). إن عدداً كبيراً من تلك الشركات ليس لها مقدرة على إقامة مشاريع بمواصفات جيدة، لأنها كانت تعتمد على العمالة المخالفة، هذا فضلاً عن سوء إدارة المشاريع، ما أدى إلى تعثرها، وسوء إنجازها، بدليل ما تكشفه الأمطار في كل موسم من عيوب يندى لها الجبين. كلنا يعلم أن بعض تلك الشركات كان يبيع حصته من التأشيرات، ويلجأ إلى العمالة السائبة الرخيصة التي لا تكلفة شيئاً، وعلى سبيل المثال حصل أحدهم على تأشيرات لجلب عمالة لنظافة المشاعر المقدسة في أحد المواسم، لكنه بدلاً من ذلك باعها في السوق السوداء في البلد الذي كان سيحضر العمالة منه، بعشرة آلاف ريال للتأشيرة الواحدة، وأحضر عمالة رخيصة غير مؤهلة لم تستطع القيام بالعمل كما ينبغي، مما سبب حرجاً لبلادنا أمام الحجاج الوافدين من أصقاع الدنيا. كذا حصلت إحدى الشركات الكبرى على عقد وفر لها ثلاثين ألف تأشيرة، وعلى الرغم من ميزانيتها الفلكية، لم تحضر عمالة بالتأشيرات التي أعطيت لها، بل كانت تلجأ إلى العمالة السائبة التي ترسل لها حافلاتها في الفجر لتحملها إلى موقعها، وتعود بها آخر النهار، ومع ذلك لم يسألها أحد عن سبب استعانتها بالعمالة المخالفة، ولهذا لا نعجب من ظهور عيوب في مشاريع تلك الشركة في موسم الأمطار، مادامت تعتمد على تلك العمالة. لكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان أين ذهبت الثلاثون ألف تأشيرة؟ هل بيعت في السوق السوداء؟ أم أهديت إلى الأهل والأقارب وكبار موظفي الشركة ليستقدموا بها أقاربهم! أما التعليم الأهلي فلا أعتقد أني أقفز على الحقائق عندما أقول إنه يعاني من مأزق النوعية، من حيث افتقاره إلى البنية التحتية التي تحتاجها المدارس من وسائل تعليمية وتقنيات، وقاعات دراسية نموذجية، ومعامل وملاعب ومطاعم ومسارح، ومعلمين ذوي تأهيل عال، ناهيكم عن التعليم المتطور الذي لا يقوم على الحفظ والتلقين. ومع هذا يردد ملاك المدارس على أسماعنا نغمة نهوضهم بالتعليم، ومساهمتهم في توفير ما مقداره 13 مليار ريال من ميزانية التعليم التي كانت الدولة ستتكبدها، لولا وجود المدارس الأهلية التي يلتحق بها عدد كبير من التلاميذ. وأكد أحدهم أن "المدارس الأهلية هي أعلى القطاعات الاقتصادية في السعودية في نسبة توطين الوظائف، وأن 98 في المئة من الوظائف التعليمية في المدارس الأهلية للبنات تشغلها سعوديات، وتصل نسبة التوطين في المدارس الأهلية للبنين إلى 25 في المئة، بسبب عدم توفر معلمين سعوديين يغطون حاجات تلك المدارس" فهل يريد أن يقول إنهم يفوقون البنوك في توظيف المواطنين؟ ثم ماذا عن الرواتب المتدنية، وإيقافها في إجازة الصيف؟ فضلاً عن عدم شعور المدرس المواطن بالأمان الوظيفي فهو عرضة للفصل في أي وقت. وكانت بعض المدارس الأهلية قررت مؤخراً زيادة رسومها بمقدار 40%، فقد أكد أحدهم أن "الرواتب الجديدة للمعلمين والمعلمات ستدفع ملاك المدارس إلى تعديل الرسوم، ولا يمكن أن تستمر مدرسة أهلية برسومها الدراسية السابقة إذا علمنا أن راتب المعلم أو المعلمة يصل إلى 7300 ريال، منها 2500 يدفعها صندوق الموارد البشرية ". لكن مجلس الوزراء أمر أن تتولى وزارة التربية والتعليم، مراجعة الرسوم الدراسية المقررة من المدارس الأهلية وفقاً لما تضعه من ضوابط (علينا ألا ننسى أن أكثر المدارس الأهلية في معظم مدن المملكة، يملكها أشخاص عملوا أو ما زالوا يعملون في وزارة التربية، ويسجلونها بأسماء زوجاتهم وأقاربهم، وقد استفاد هؤلاء من وجودهم في الوزارة وتم التغاضي عن مخالفات كثيرة في مدارسهم، ولذا لا يجوز أن تتفرد الوزارة بوضع لوائح وقوانين للتعليم الأهلي، بل ينبغي إسناد الأمر لجهة محايدة). وعلى الرغم من طلب مجلس الوزراء وضع ضوابط لزيادة الرسوم، فقد أكدت رئيسة لجنة ملاك المدارس الأهلية (بنات) في غرفة جدة - حسب صحيفة اليوم - "أن رسوم المدارس الأهلية ستزداد في العام الدراسي المقبل بنسبة تفوق 50٪ بسبب تحمل المدارس الأهلية لمصاريف من نقل كفالات وعلاج وتذاكر سفر موظفيها، وهذا ينعكس على الرسوم الدراسية التي يتكفل بها ولي الأمر".أي أن أولياء الأمور هم من سيسدد تلك الزيادات! وهذا يذكرني بإحدى المدارس الكبرى في مدينة الرياض التي تسيطر عليها جنسية عربية طلاباً ومدرسين، وكان الطالب السعودي (وأظنه مازال) يدفع رسماً عالياً عنه وعن زميله العربي الذي ينتمي لجنسية صاحب المدرسة، على علم من وزارة التربية والتعليم منذ أن كانت وزارة معارف! وأشارت إلى"أن أغلب خريجي الجامعات السعودية الذين يتم إرسالهم إليهم، غير مؤهلين جيداً للعمل في المدارس". وإني هنا أتساءل لماذا لا يتعاقد ملاك المدارس مع مدرسين مؤهلين من خارج المملكة، إن كانوا يريدون حقاً تعليماً مميزاً، ما أعرفه خصوصاً في مدارس البنات الخاصة، أنهم يستعينون بربات البيوت الوافدات المقيمات مع أزواجهن برواتب قليلة، وهن بعيدات كل البعد عن التأهيل علمياً وتربوياً، وذلك اقتصاداً في النفقات. فأين التعليم المميز الذي يزعمونه؟ ولم تنس أن تؤكد على وجوب أن تحظى المدارس الأهلية بالدعم وتقديم التسهيلات كونها رافداً مهماً في التربية والتعليم. والرافد هو تلك النغمة التي ما انفك ملاك المدارس يبتزون الدولة بها! يتساءل كثيرون عن دور ملاك المدارس الأهلية في المسؤولية الاجتماعية، وقد أجاب رئيس لجنة التعليم الأهلي في الغرفة التجارية بالرياض قائلاً: "أعتقد أن المؤسسات الخيرية سواء التعليمية أم الصحية قامت بجزء من واجبها الوطني" ولا أدري ما علاقة المدارس بالجمعيات؟ لكنه عاد تحت ضغط التساؤل ليدخل ما يتلقاه الطالب في المدرسة، وهو مسؤولية تربوية صرفة، في نطاق المسؤولية الاجتماعية، فياله من مبرر: "المدارس الأهلية تعتني بالطالب وتقدم له الخدمات والجوائز في نهاية العام الدراسي والدورات التدريبية، مع أن هذا لا يدخل في الرسوم الدراسية، إذاً هي تقدم خدمة اجتماعية"! أما ملاّك مزارع التمور فقد أكدوا أنهم أمام كارثة، ربما تكون نتيجتها بقاء الثمرة هذا العام في النخيل(يا للهول!)، بعد أن شهد سوق العمالة عمليات تصحيح انعكست على مزارع النخيل، داعين إلى ضرورة جلب عمالة موسمية لقطف ثمرة النخيل، في فترة قصيرة خلال شهرين فقط لتنقية وتغليف وصيانة وتسميد، تخدم أكثر من 6 ملايين نخلة بمنطقة القصيم. وقال رئيس جمعية منتجي التمور: إن عمليات التصحيح للعمالة جاءت سريعة ودون دراسة مسبّقة (كيف؟)... مبيناً أنه يجب إعداد عمالة تحل محل العمالة التي استبعدت (لماذا لا تعدونها أنتم من المواطنين العاطلين؟)، وأنه ليس من المعقول أن يعمل الشاب السعودي في تلقيح النخيل والخراف والصرم وغيرها! ويشاركه في هذا، رئيس لجنة التمور بالغرفة التجارية بالقصيم، بقوله: إن قطاع النخيل لا يمكن أن يستوعب الشاب السعودي كحرفي يمتهن الخراف والصرم والتنظيف والاهتمام بالنخلة (لأن ظروفهم غير ظروف آبائهم)! ولا أدري لِمَ الإصرار على عدم قدرة المواطنين على العمل في مزارع النخيل؟ ألا يوجد آلاف من الشباب العاطلين من غير المتعلمين، أو من ذوي التعليم البسيط يمكن أن يعملوا في مزارع النخيل، لماذا لا يدربون على العمل في تلك المزارع؟ ثم ماذا عن تدريب الفتيات على التنقية والتغليف؟ أليس هذا أجدى من التذمر والشكوى، والتهديد بترك التمر على النخل لتأكله الطيور؟ ألا يدخل هذا التدريب في نطاق المسؤولية الاجتماعية التي هي أقل ما يمكن تقديمه للوطن؟ ولا أظن أن مزارعين يملكون ستة ملايين نخلة يعجزون عن إقامة تدريب من هذا النوع متى صدقت النيات! أما بيت القصيد لدى تجار التمور- كما لدى غيرهم – فهو التلويح بزيادة الأسعار، كقولهم: (سوف تكون هناك تكاليف إضافية، إدارية وربحية وتشغيلية سيتحملها المزارع وبالتالي المستهلك)! فيا لهذا المستهلك الذي أنهك كاهله بالمبالغ التي يحمله إياها التجار ورجال الأعمال، فمادام يحتاج السلعة فعليه أن يدفع بالتي هي أحسن، ولو كان لدى المستهلك شيء من الوعي، لرفض هذا الاستغلال، بالامتناع عن شراء تلك السلع لتبور، أو تبقى على الشجر لتأكلها الطيور. أخيراً يعتري كثير من المواطنين العجب لتذمر التجار ورجال الأعمال في بلادنا عند صدور أي قرار تنظيمي، فالعقاريون يتذمرون من وزارة الإسكان، والمقاولون يتذمرون من وزارة العمل، وملاك المدارس من وزارة الشؤون البلدية والقروية، والمستوردون من الجمارك، وتجار المواد الغذائية من وزارة التجارة.