مع تراخي الحدود السيادية في العالم، وسهولة تحرك الارهاب العابر للقارات، وفي زمن تراجع فيه الوجود المادي للارادة الوطنية الذاتية الحرة في معظم الدول ما عدا الولاياتالمتحدة وبعض أوروبا، تتصرف إسرائيل في المنطقة العربية من العالم على أنّها هي الغرب في أرض الشرق المسلم والمسيحي. فاذا كان الاستعمار بأشكاله قد انسحب أو كاد من كل مكان، فهي أي إسرائيل باقية لسد الفراغ، تملك في فلسطين على التحديد كل ما كان يملك بل حتى ما لم يكن يملك الاستعمار البريطاني من حقوق، فهي الفتاة الشابة ترث شيخاً استعمارياً هو بريطانيا زهد بسلطاته وحقوقه وهي لم تزهد ولن تزهد عارفة بمصلحته ومصلحتها معاً فوق ما يعرف وكأن الاستعمار لم يعرف مصلحته، كما يقول الصهاينة، إلا مرة واحدة عندما أسس إسرائيل التي تستمر في العمل له ولها بتفويض وبغير تفويض. والواقع أن الاسرائيليين يدلون على الغرب بأنّهم أقاموا له من إسرائيل دولة لعلها المؤسسة الاستعمارية الوحيدة في العالم التي تناصر مصالح الاستعمار بلا خجل ولا عقدة نقص ولا استعداد للاستقالة من الدور واستمرار الوجود. بل إن بعض اليهود يصرحون أنّه لولا إسرائيل لما تبقى للغرب موطئ قدم في أماكن كثيرة في العالم. فهم يخلصون له أكثر مما أخلص لهم في أيام عزه بكثير! وأخبث الكيد الإسرائيلي في المنطقة الذي بدأت ظواهره تتضح أكثر فأكثر، هو ما يستهدف العلاقة الإسلامية المسيحية القائمة في لبنان والتي على أساسها قام الميثاق الوطني اللبناني. فما أزعج ولا يزال يزعج إسرائيل شيء مثل الحديث الرائج في الشرق والغرب عن نجاح الوفاق الإسلامي المسيحي في لبنان أو الحديث عن نجاح الديموقراطية فيه، بل إنّهم ينزعجون بصورة خاصة من يهود مشارقة عاشوا في لبنان وولدوا فيه وسبقهم إليه آباؤهم وأجدادهم ممن سكنوا بيروت أو صيدا أو غيرهما من الأماكن اللبنانية، فأمرهم عند سائر الصهاينة عجب! إنهم يعيشون اليوم بأغلبيتهم في أوروبا أو غيرها يحنون إلى نوع الحياة التي عاشوها في لبنان أيام العز السابقة، وكذلك آخرون بعضهم عاشوا في حلب أو دمشق أو سواهما من الأرض السورية أو العراقية والانطباع السائد عندهم ويعلنونه أن الشرق كان أرحم بهم مما لقوا ويلقون في أكثر بلدان الغرب وليس ألمانيا وإيطاليا فحسب حيث عوملوا من قبل النازية والفاشية تحت شعار اللاسامية معاملة لم يعرفوها في أي بلد شرقي عربي أو غير عربي. إن العروبة الجامعة وكذلك الهويات الأضيق كالمصرية أو العراقية أو السورية أو اللبنانية أو المغاربية أو حتى الفلسطينية لم تتعصب ضد اليهودية على النحو الذي عرفه هؤلاء ويعرفونه في الكثير من بلدان الغرب ولكن هذا شيء وحلف قياداتهم كما يقولون مع الاستعمار الغربي ضد القومية العربية والوطنيات العربية شيء آخر. ولكن هذا لا يعني أن المشروع الاستعماري الغربي والمشروع اليهودي المتصهين لم يكونا في معظم الأوقات وليسا هما الآن رفيقي سلاح ومتقاسمي غنائم وسلطان في أرض الشرق وخاصة في أرض العرب. فالرهان الصهيوني كان منذ البدء ولا يزال على العالم الأنجلوساكسوني الأميركي الشمالي أولاً والبريطاني أيضاً لا بسبب التقديس المشترك والقراءة المشتركة للتوراة والعهد القديم بل تجسيد لوحدة النظرة عند الجهتين إلى النزاع الفلسطيني والعربي من جهة واليهودية المتصهينة من جهة ثانية، وهو أمر مختلف عن كل من الحرب الصليبية والاستعمار الغربي الأوروبي. ذلك أن المشروع الصهيوني في نظر القائمين عليه هو العودة إلى الشرق، بينما المشروع الغربي الاستعماري هو الذهاب إليه أو إعادة الكرة عليه بعد الكرة الأولى في الحملات الصليبية. وفي الحالتين سيبقى دور لبنان هو نشر الاقتناع بين أبنائه وأبناء عمومته من العرب بأن القدرة على الحرب والقدرة على المنافسة كلتاهما ضروريتان، ولعل الثانية أي القدرة التنافسية هي الأهم والأبقى للبنان والأكثر دلالة على فهم الذات وطبيعة العصر الذي اعتدنا على أن نعيش فيه من غير أن ندرسه بما فيه الكفاية. الدولة اللبنانية رغم صراخ الاخرين على أرضها، ديموقراطية قائمة على تعدد ديني مسيحي إسلامي، عربية الوجه واللسان والهوية آخذة بالخير النافع من حضارة الغرب كما في بيان حكومة الاستقلال اللبنانية برئاسة رياض الصلح، يتسابق مسيحيوها ومسلموها على التظلل بعلمها الوطني وتكذب علاقات أهلها بعضهم ببعض كل المزاعم التي رمت بها إسرائيل المنطقة العربية من عصبية عمياء ورفض للتقدم وروح العصر. والواقع أن التاريخ الاستقلالي التحرري في المنطقة يشهد لمعظم البلدان العربية المحيطة بفلسطين بأنّها جميعاً خاضت معاركها الاستقلالية بروح وطنية جامعة للأديان والطوائف. فمصر واجهت الانكليز منذ أيام سعد زغلول باتحاد المسيحيين مع المسلمين وكذلك سوريا في مقاومتها للانتداب الفرنسي لم تتعرف إلا بما يجمعها وطنياً وقومياً من روابط. والأمر نفسه ينطبق على العراق في مقاومته للحكم البريطاني فهو كان دائماً موحد الصفوف، وكذلك سوريا لم تتخل يوماً عن طليعيتها في العمل التحرري الوطني والقومي. ولعل ما كان في ذهن رئيس حكومة الاستقلال اللبناني رياض الصلح عندما قال في البيان الوزاري لحكومته الاستقلالية الأولى إن لبنان لن يكون للاستعمار مقراً أو ممراً هو أنّه سيكون النقيض لإسرائيل التي يدرك كل عربي أو غير عربي منذ ذلك الوقت أنّها مطلوبة دولياً لتنهض بهذه الوظيفة وظيفة الممر والمقر للاستعمار في المنطقة. في ثنايا تلك العبارة الشهيرة من البيان الوزاري لرئيس الحكومة اللبنانية الاستقلالية الأولى رياض الصلح القائلة "إن لبنان لن يكون للاستعمار مقراً أو ممراً بل وطن عزيز مستقل سيد حر عربي الوجه يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب"، في ثناياها يبرز إلى جانب الوضوح في تشخيص نقاط القوة التي ينطوي عليها التكوين الوطني اللبناني تخوف حقيقي عند صاحب البيان من نتائج تداعي أوضاع المنطقة عليه، وكأنّه يحذر سلفاً اللبنانيين والعرب عامة من شراسة التحولات والأخطار على هنائهم واستقرارهم وأحلامهم التي يحملها المشروع الصهيوني عليهم وعلى لبنان بصورة خاصة، فإما ولادة سريعة لارادة عربية عامة وقوية في دعم لبنان وإنجاحه وطنا ودولة ومنارة حضارية أصيلة وعصرية تدحض الدعاوى الصهيونية ضد الحكومات والشعوب العربية ومنها لبنان أو تنجح لا سمح الله إسرائيل في تسويق نفسها لا كدولة للغرب في أرض الشرق بل كدولة من الغرب بالذات لها ما له من حقوق وامتيازات مفتوحة على كل ما تريد وتطلب من شرق دأب الاستعمار على التعامل معه من غير أخذ لأي حق له أو إرادة بعين الاعتبار.