في الاختلاف والتصادم والتنازع والتلاطم تفاعلٌ وتلاقحٌ وتكاملٌ وصحةٌ وخصوبةٌ "فكرية" تُنتج في الغالب أفكاراً جديدة، وجيدة، وواعدة، لقراءة ونقد وسبر وتمحيص وغربلة واقعنا، وأفكارنا، وتموضعاتنا، ومناشطنا، وانفتاحنا على معطيات الحضارة والثقافة الإنسانية. وهذا يشي بنهضة فكرية ومعرفية، لا حدود لومضاتها، وأنوارها، وإبداعاتها، في كل جوانب وشؤون الحياة. هذا الأمر لا يعرفه، ولا يريد أن يعرفه، ويحول دون معرفته، من لا يؤمن أساساً بحرية الرأي والتعبير، ولا بقِيم الاختلاف وإيجابياته، ولا يتحمل رأي المُخالف. لذا يمارس بعقلية عابثة ومُتسلطة، وبلغة نقدية حادَّة متشنجة: لعبة الوصاية الفكرية الاقصائية، بكل مفرداتها، وتصنيفاتها، ويتحول خلال الزمن إلى أداة مُستخدمة لفرض القمع والكبت الفكري، وتهميش القابليات والعقول المستنيرة، وتزييف ذهنية الإنسان ونباهته، وتحجيرها. وسائطه خليط من الكذب، والنفاق، والتطبيل، والتزلف، والرياء.. قوله صوابٌ، لا يحتمل الخطأ، وقول الآخر المخالف خطأٌ لا يحتمل صواب. يعمل، ما في وسعه، لتسفيه آراء مخالفيه، مستخدماً في ذلك روزمانة جاهزة وحاضرة من "الاتهامات المُعلبة" التي تنقض على الخصم المخالف، بغتة، ودون سابق إنذار. محتوى هذه الروزمانة صادم، يُحاكم الأشخاص قبل الأفكار، ويخوض في النيات والمقاصد، ويمارس الاستفزاز والتشويه والتحريض والتجييش، وخلط الأوراق، وحتى التخوين والقدح والتجريح، ويستخدم أيقونة "الوطنية" إن لزم الأمر للتأديب والتأليب والترهيب. لكن، ينبغي ألا نقلق، أو ننزعج، من هذه النوعية من الممارسات الفكرية غير الواعية، بسفسطتها وجدلها، حتى ولو كانت شديدة الحِدّة. فمآلاتها إلى الفشل والتراجع، أمام زخم مفعول اجتماعي، وحماسٍ وانفعال تلقائي، يتجاوز عتبة الخوف، يستطيل إلى وعيٍ أكثر اتساعاً ونضجاً وقابلية، للتعايش تحت مظلة التنوع والتعدد الثقافي، وتحت قِيم الاختلاف والتَّصادم الفكري. وأكثر تمسكاً وتشبثاً بملكة النقد الذاتي ومعرفة الحقيقة. ويستطيل هذا المفعول الاجتماعي كذلك إلى إدراكٍ أكثر لجزالة مخاطر محتوى ومخرجات وصاية فكرية، انتهازية، متسلطة، متسلقة وصولية، لم يعُد الزمان زمانها، ولا الظروف ظروفها، ولا الناس ناسها. على أيَّة حال سيكون الوعي العقلاني المجتمعي المُطِّرد، والمستنير، أكثر صلابة أمام كل الشطحات الدينية والفكرية التي تستخف بالعقول والفهوم. وسوف يتعامل معها كما يتعامل المزارع مع النبتة الطُفيلية، التي تتغذى على عروق النبات الأصلي، فتفسده، وتُفسد معه كل الأوراق الخضراء، بجمالها، وحيويتها، ونقائها. سواءً جاءت هذه الشطحات في سياق خطابٍ ديني منغلق متوجسٌ من كل جديدٍ وحديث. أو جاءت عبر تفسيراتٍ متحررة من الدين، مُتفلتة من عِقالها. أو عبر ممارساتٍ فكرية انتهازية فاضحة. كلمة أخيرة: الساحة الفكرية والثقافية يُفترض أن تتسع للجميع، بكل التنوع الفكري الموجود، حيث التصادم، والتلاقح، والتكامل بطرائق فاعلة مؤثرة، تزيد من وهج "أيقونة حرية التعبير" وتمنع، أو تحدّ من محاولات تجفيف منابع الإبداع. فهذا سبيلنا إذا أردنا نهضة فكرية ومعرفية ثرية، لا يمكن فصلها عن مشاريع نهوض الأمم بالأمس واليوم والغد. شَذْرَةٌ: قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعداد أن أموت دفاعاً عن رأيك. (فولتير).