هذا الموضوع يأتي في سياق اقتراح الآليات العملية الأكثر نجاعة في مكافحة الظاهرة الإرهابية. كانت التفجيرات التي طالت عواصم العالم الأول، كتفجيرات أميركا التي حدثت في الحادي عشر من أيلول سنة 2001م، وتفجيرات قطارات (أتوشا رينفي) في مدريد بأسبانيا، في الحادي عشر من مارس سنة 2004م، وتفجيرات محطات قطارات الركاب في لندن في صباح السابع من يوليو سنة 2005م، قد وجهت رسالة مفادها: أن أنياب الإرهاب لن توفر حتى العالم الأول الذي ظل يتفرج على خلايا الإرهاب وهي تتكاثر في دول العالم الثالث، والعالم الإسلامي تحديدا. يقترح أركون أن يدرس الدين بطريقة عقلانية وفق برنامج تنويري يركز على جوهر الدين وروحانيته، وعلى القيم المشتركة بين الأديان التوحيدية، كالعدل والإحسان والحب والرحمة والبر، وهي كلها قيم عالمية تأخذ على عاتقها صيانة كرامة الإنسان قبل تلكم التفجيرات التي حدثت في نيويوركومدريدولندن، كان الإرهاب ينثر، ولما يزل، شظايا الموت ومناظر الدماء ومظاهر الخراب في أكثر من مدينة وقرية من دول العالم الثالث، والإسلامي منه بشكل أخص. فلقد طالت ضرباته المميتة كلا من بالي وجاكرتا وشرم الشيخ والرياض وجدة والخبر وينبع والقاهرة والإسكندرية والأقصر وتونس وجربة وصنعاء وعدن والجزائر والبليدة والدار البيضاء ومراكش ونيروبي ودار السلام وإسلام أباد وبومباي وإسطنبول وغيرها، ولم تكن حينها قادرة على إيقاظ الضمير الغربي، حتى حصلت فاجعة الحادي عشر من أيلول، ليكتشف الغرب أن الرقص مع الثعابين ليس مأموناً في كل الأحوال، وأن أنيابها قد تلتف على أذرع من يداعبها ويتعهدها بالرعاية! الرد الغربي على هجمات الحادي عشر من سبتمبر لم يكن يراد منه قطع دابر الإرهاب، والإتيان عليه من القواعد، بل كان انتصارا لكرامته التي مرغها الإرهاب في التراب! كان منتظرا من الغرب ذي الإمكانات الهائلة، والحلول الناجعة، والمعلومات الاستخباراتية الدقيقة والوفيرة، ألا يلجأ إلى حلول عسكرية، وهي الحلول التي يعلم هو جيدا أنها ليست أكثر من صب زيت على نار مشتعلة. كان العارفون ببواطن الإرهاب يأملون من الغرب أن يتوسل حلولا تركز على الحفر الأركيولوجية، عن الأسس الثقافية والسياسية التي غذت الفكر الإرهابي وأمدَّته بإكسير الحياة، ومن ثم العمل مع شركائه على تدشين برامج ثقافية وقائية تأتي على الإرهاب من قواعده التي يمتح منها أسباب وجوده. رغم أن الولاياتالمتحدة غزت أفغانستان ومن ثم العراق، كرد فعل على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ورغم أنها خسرت مليارات الدولارات، وآلاف الأنفس، وأهلكت الحرث والنسل، وأبادت شعوبا بأكملها، واستباحت دولا قائمة، فجعلتها مأوى للغربان والبوم، إلا أنها لم تستطع أن تحد من بواعث الإرهاب ولا من إمكاناته أو نشاطاته، ولما يزل الإرهاب يتكاثر ويتعاظم، وخلاياه تعاود إنتاج أنفسها بطرق أكثر فاعلية ونجاعة، فما هو السبب يا ترى؟ في العالم الإسلامي الذي اكتوى بنار الإرهاب ولمَّا يزل، طرح المخلصون من أبنائه فكرة العلاج الثقافي، الذي سيركز على إعادة فرز التراث وغربلته، تمهيدا لتسليط أضواء النقد التاريخي عليه، لاستخراج ما يتكئ عليه الإرهاب من تراث يُنظر إليه على أنه"مقدس"، وما هو بمقدس، إن هو إلا إرث تاريخي اجتماعي، أنتجه فاعلون اجتماعيون، تأثراً بظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالجملة: ائتماراً بأمر السياق التاريخي الذي كانوا يعيشون فيه، ويعملون لحسابه، لكننا لما نزل نستصحبه اليوم كمعطى ثابت"مقدس"! مع ذلك فالمراجعة الثقافية الداخلية، إن حصلت، ربما لن تؤتي حقها كاملا يوم حصاده إن لم تصاحَب بمراجعة الغرب لمواقفه السياسية الداعمة للإرهاب، بموازاة تدشينه لبرامج وفعاليات ثقافية مشتركة مع شركائه، تدحض مسلّمات الإرهاب وأسسه التاريخية. كان المفكر والفيلسوف العربي الراحل (محمد أركون) قد طرح فكرة" الدبلوماسية الوقائية"، ويقصد بها، كما أوضح في كتابه (نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية)، تلك الدبلوماسية التي تتحاشى الصدامات والحروب بشكل مسبق، كما كانت عليه سياسة المحافظين الجدد على عهد الرئيس الأمريكي الجمهوري (جورج بوش الابن)، وتركز، بدلا من ذلك، على طرح برنامج تعليمي تنويري مشترك لجميع دول حوض البحر الأبيض المتوسط (ينطلق أركون هنا من مسلّمة تقول إننا والغرب متجاوران جغرافيا وثقافيا، فهم يتموضعون في شمال المتوسط وغربه، ونحن في جنوبه وشرقه، وبالتالي فنحن وهم، كما أننا أصحاب مصلحة مشتركة في كبح جماح الحرب، فيمكننا كذلك، بحكم تجاورنا جغرافيا وثقافيا، أن نشترك في طرح برامج ثقافية تقاوم الإرهاب). يقترح أركون أن يدرس الدين بطريقة عقلانية وفق برنامج تنويري يركز على جوهر الدين وروحانيته، وعلى القيم المشتركة بين الأديان التوحيدية، كالعدل والإحسان والحب والرحمة والبر، وهي كلها قيم عالمية تأخذ على عاتقها صيانة كرامة الإنسان أيا كان دينه أو مذهبه. ويمكن أن يضاف إلى هذا البرنامج: تدريس القضايا الكلامية، والخلافات المذهبية بطريقة تاريخية بحتة، هي أبعد ما تكون عن إصدار أحكام قيمية، بقدر ما تقدمها للمتلقي على أنها محض نتاجات بشرية ذات صبغة سياسية واجتماعية ماضوية. ما يُدرس اليوم في مدارسنا، وما يبثه الخطاب الديني عموما، يأخذ على عاتقه حمل الخلافات العقدية التي باءت بحملها الفرق الكلامية والمذهبية الماضية، على أنها الدين نفسه. وهو لذلك، بل وبسبب من ذلك، يقدم الرؤية السلفية التي كانت رؤية ضمن رؤى متعددة، على أنها الدين (بألف ولام العهد). وليته، إذ قدمها على أنها الدين الحق، عذر الرؤى الأخرى وأصحابها على أنهم اجتهدوا فأخطأوا، بل قدمهم للمتلقي على أنهم ضالون مضلون، كانوا يتعمدون الكيد للحق وأهله، فنشأ المتلقي لذلك الخطاب على رؤية أحادية ديماغوجية، تصفه وجماعته ومذهبه على أنهم أهل الحق والفرقة الناجية وحدها، وما عداها، حتى وإن كانوا من داخل المذهب، فهم ضالون. وفي أحسن الأحوال هم مبتدعة! وفي هذا الجو الثقافي الأحادي الحاد يجد التطرف ومن ثم الإرهاب بيئته المناسبة. إن عدم إعادة النظر في الموروث الفقهي والعقدي الذي يؤصل للإرهاب، إضافة إلى الرد الغربي المسلح، القوي المسرف والمبالغ فيه، على الإرهاب، كانا كفيلين حتى الآن بعدم تقديم أي حلول ناجحة لتحجيم الظاهرة الأصولية، تمهيدا لاجتثاثها. وهذا يعني أن الظاهرة الإرهابية ستستمر، طالما بقيت جذورها بمنأى عن نقد ثقافي حقيقي، نقد كفيل بقطع حبل السرة مع مكامن تغذيته من أصوله، وصولا إلى قطع أغصانه وشجيراته الذي سيكون حينها مجرد تحصيل حاصل! معلوم أن القيم الأحادية والطائفية التي تغذي الإرهاب في الجانب العربي والإسلامي، وتسقيه ماء الخلود، لم تتعرض للنقد الجنيالوجي الذي دشنه الفيلسوف الألماني (نيتشه) في كتابه الشهير(جنيالوجيا الأخلاق). والجنيالوجيا كمفهوم تعني، كما يقول المفكر العربي:هاشم صالح، "البحث عن أصل الأشياء والعقائد". وبتطبيق هذا المفهوم على الصراع السني - الشيعي الذي يقف اليوم كباعث أول، وربما وحيد، للإرهاب، ستنكشف لنا حينئذ (تاريخية) هذا الصراع، وأنه كان في البدء صراعا سياسيا بين حزبين سياسيين، وأن أحد ذانك الحزبين، وهو الحزب الشيعي، عمد، بعد أن هزم سياسيا، إلى تغليف صراعه مع الحزب السني بغلاف عقدي سميك، فلم يكن أمام الحزب السياسي الآخر السني إلا أن يغلف علاقته هو الآخر مع الحزب الشيعي بغلاف عقدي. وبتسليط أضواء النقد التاريخي على التراث الشيعي - السني على هذا النحو، يتضح أننا اليوم ورثة صراع سياسي دنيوي لا ناقة لنا فيه ولا جمل، لكنه أُلْهِمناه وعُرِّفناه ودُرسناه على أنه صراع عقدي تفترق على ضوء معرفته سبل الهداية من الغواية! الفكرة الجديدة التي تبتغي جر الغرب عنوة إلى ساحة الحرب الحقيقية على الإرهاب، والتي تبناها أركون، تقول: إن على الدبلوماسيين الأوروبيين، أو الغربيين عموما، والمنخرطين في تشكيل العلاقات الدولية الجديدة، ألا يكتفوا بالتأكيد على احترامهم للقيم الإسلامية، أو إعجابهم بالقرآن، بل إن عليهم أن يساعدوا العالم الإسلامي على الانخراط في إصلاحات ثقافية جذرية، تبتغي تلمس الأسباب الحقيقية للإرهاب، بدل أن يكتفوا بالجانب المجاملاتي التبجيلي في أحسن الأحوال، أو بجانب الرد العسكري السلبي على حوادث الإرهاب. يرى أركون أن مؤتمرات الحوار بين الأديان لم تحل دون انتشار الظاهرة الإرهابية التي تفاقمت على الرغم من كل هذه الحوارات، وكنا، كما يقول، نعتقد أن العكس سيحصل. والسبب أن تلك الحوارات ليست في حقيقتها، كما يرى أركون، إلا حوارات مجاملة في معظمها، لم تتجرأ على طرح الأسئلة الحقيقية على التراثات لكي لا تجرح أحدا. وهي نفس النتيجة التي آلت إليها الحوارات المذهبية، كالحوارات بين السنة والشيعة التي لم تطرح أسئلة جادة على الأصول السياسية للصراع، وكذلك على بداية (تديين) ذلك الصراع السياسي، وترقيته إلى مجمل العقائد، حتى غدا الشيعي يعادي السني، والعكس صحيح، لا من منطلق سياسي براجماتي دنيوي، بل انطلاقا من علاقة عقدية تفاصل بين الحق والباطل، والاتباع والابتداع، وبالجملة: بين الكفر والإيمان، فمن أين لنا، والحالة هكذا، أن نحجّم ظاهرة الإرهاب، ناهيك عن أن نستأصلها؟