يقول عدنان الصائغ: والعراق الذي يبتعد كلما اتسعت في المنافي خطاه والعراق الذي يتئد كلما انفتحت نصف نافذةٍ قلت: آآآه! والعراق الذي نفتقد نصف تاريخه أغانٍ وكحلٌ ونصفهُ الآخر طغاه!!" مازال مسلسل الاغتيالات في العراق يعرض حلقاته الدموية، منذ سنوات والأكفان توزع بالمجان، والأجساد ترحل على أتفه الأسباب، لا خلاف يستوجب القتل كما يقول أحد المفكرين؛ إلا أنه في العراق لا يمر عام واحد دون أن تكون هناك قائمة طويلة من المثقفين والإعلاميين والأطباء الذين قتلوا في عمليات اغتيالية، فيما بقي آخرون يتوجسون نهايات مماثلة، سنوات طوال والعراق لم يعد نخلاً ولا سيّاباً ولا موسيقى، سنوات والموت هناك وفي كل الطرقات يعبر ويقتنص أي فريسة، سنوات طويلة جداً والبنادق والآلات الحادة لم تنحنِ بعد!. الروائي محمود سعيد، كان من أبرز الأسماء الروائية التي رفضت هذا السلوك الدموي والذي شكلته البنية الدينية -على حد تعبيره- التي تخضع للمصالح السياسية وللتفرقة من أجل استمرار السيادة، فمهما رفض المثقف ما يحدث سواءً كان في المنفى أو في الوطن، فإنه وكما يقول سيُغتال عاجلاً أم آجلاً، حيث يذكر بأنه بعد الغزو الأمريكي للعراق، أوعزت المؤسسة الدينية الشيعية في العراق إلى أعوانها في لندن، فقامت المنظمات الحزبية التابعة لها لتصدرت قائمة بأكثر من ألف وخمسمئة عراقي مطلوبين للقتل، وبالفعل في اليوم التالي اغتالوا صحفية مشهورة: (أطوار بهجت) ثم تتالت الاغتيالات حتى تجاوزت 50,000 ألف بريء، وليكتب بعد ذلك سنة 2006 مقالة باسم قوائم الغدر. فماذا حدث بعدئذ؟ كان ردّة فعلهم أنهم أضافوا اسمه إلى قائمة المطلوبين للقتل؟ فاضطر إلى تغيير اسمه حينما زار العراق في العام الماضي كما يذكر، مؤكداً وبكل حزن، أنه سيزداد العنف في العراق، وسيزداد الصراع الطائفي؛ ليبقى المجرمون هناك ينهبون واردات العراق النفطية، وليبقى الشعب ذاهباً إلى الجحيم، وبأن الذين يقتلون في العراق الآن يقتلون حسب خطة معدة، ويجري تنفيذها بكل دقة؛ فالمرتزقة هناك يفجرون أهدافاً في مناطق شيعية، فيقوم الشيعة بإبادة سنة مختارين وهكذا. أما سنان أنطوان، صاحب روايته "يامريم" التي رشحت في دورة البوكر السابقة إلى القائمة القصيرة، اختصر ما يحدث في العراق الآن بجملة تحمل دلالات واسعة رغم قلة عباراتها حيث قال:" العراقيون بكافة شرائحهم يُغتالون في كل يوم؛ إنهم يعيشون في أتون الجحيم، مهما كان الشخص عراقيّاً ويسكن في المنفى لا يستطيع أن يصف حجم المأساة، من يعيش هناك هو من يستحق أن يتكلم". لم يقف الجهد المبذول من المثقفيين العراقيين هنا فقط بل قدم المفكر العراقي رشيد الخيون الكثير من جهده حيث يقول: "كتبت الكثير، والكثير جداً، عن الإرهاب والإرهابيين، مِن صبحية التاسع مِن أبريل (نيسان) 2003 وحتى اليوم وأنا أكتب، ففي تلك الصبيحة كتبت مقالاً بعنوان "لا تسمعوا نصيحة سُديف الشاعر" وسُديف هذا نصح العباسيين أن يأخذوا الثأر من الأمويين، فكان الذبح ونبش القبور، مقدماً بذلك رسالة للقوى التي دخلت مع الأمريكان أن تستفيد من العبر! لقد كتب أيضاً مقالاً بعنوان "لا تعدموا صداماً" مع أن الأخير أعدم أخي واغتال أولاد عمي، وهربت أنا برقبتي، قُبيل أن يصبح رئيساً للجمهورية، وكان هو الرئيس الفعلي؛ لكن للأسف في أول يوم بدأت نزعة الثأر تستعر، فساهمتْ في تحشيد القوى التي سيطولها القتل، ومنها من اضطر أن يتعاون مع القاعدة. لم تمر عملية اغتيال واحدة كما يذكر الخيون دون يكتب عنها مقالاً يحمل مضموناً رافضاً للفعل الدموي المشين بحق الإنسان وبحق الإنسانية، إضافةً إلى تأليفه عدة مؤلفات تتناول هذا الموضوع فإحدى كتبه كان بعنوان "مئة عام من الإسلام السياسي في العراق" وفيه إشارات للجماعات المسلحة، وعدد المقتولين من هذه الجهة أو تلك، بجانب كتابه الآخر "ضد الطائفية.. جدل العراق بعد نيسان 2003" وفيه صرخات ضد العنف والأداء الطائفي فيها. وعن تاريخ هذا الفعل الدموي يشير الخيون بأن القوى الدينية تبنت التكفير والإقصاء، وبأنها جميعاً نهلت من فكر سيد قطب وأبي الأعلى المودودي - أي الإسلام السياسي - مما يجعلها تمارس العنف لا المدنية مردفا قوله: إن كان العنف في المعارضة مبرراً فما تبريره في زمن السلطة؟ لقد كتبت في محاولات متكررة لعقد مصالحة وطنية وثقافية لوقف تلك الوحشية، كتبت عن المصالحة كثيراً، وسميت مَن لم يستحق كلماتي بابن الفرات، كتبت عن المصالحة كوسيلة للخلاص وللخروج من هذا الذهنية التي لا تريد أن تغير فكرة القتل واللجوء إلى الرصاص والإقصاء وآلاته المتنوعة. وقال الخيون: كنا نود أن يبقى قرار إلغاء عقوبة الإعدام تضامناً مع الإنسانية التي تنبذ هذه الطريقة في التعامل مع الإنسان، كي تتغير الصورة وما ابتلى به العراق سابقا، لأن إلغاء هذا الحكم سيكون عاملاً مهما وبُعداً أساسياً لصناعة نفسية اجتماعية جديدة تطمح للبناء وإلى اللحاق بالأمم المتطورة، لا يعني هذا أن القتلة لا يستحقون القتل لكن الإكثار والإيغال في الإعدام لا يقدم لنا شيئاً كعراقيين، إنما نريد أن نبدأ بإعادة إعمار النفس العراقية، كي تشعر بقدسية الحياة بعد أن هُتكت في الحروب والاضطهاد، وعلى الرغم من كل ما كتبت من أجل العراق والسِلم العراقي وضد الطائفية المقيتة منذ القدم. وعن المثقفين داخل العراق وما يقدمونه في الوقت الحالي وكمية المخاطر التي تحيط بهم فيستشهد الخيون بقصة صديقه المثقف كامل شيّاع، قائلاً: في داخل العراق أعرف مثقفين من الشباب، على وجه الخصوص، كثر يحاربون ويتصدرون الموقف ضد العنف والتعسف، وقد نبهت العيد منهم أن يحاولوا الاحتفاط بحيواتهم؛ لأن خسارة أحدهم لا تعوض، كان كامل شياع صديقي العزيز، والمثقف النادر من أمثاله في هذه الأيام، كان من ضمن الذين عملوا في داخل العراق بعد أبريل 2003، وكان مبتغاه إعادة إعمار الثقافة العراقية، لم ينافس أحد على السلطة، لكنه أراد يعيد المسرح والسينما فقُتل ولم يجر حتى الآن تحقيق في قتله، رغم أن القاتل معروف! ويضيف الخيون: كامل شياع ذهب إلى العراق وعمل لخمس سنوات حتى اغتيال سنة 2008، لم يأخذ حتى حقوقه المالية وهو يرى الفساد المستشري، عاد إلى العراق بعد سنوات من العيش في المنفى ليساهم في صناعة التسامح وليكون درعاً إنسانياً في وجه كل من يحاول أن يمارس هذا العنف، وكنت أعرف بأن عودته إلى العراق تعني أن يكون الكفن والدعاء والبكاء في انتظاره، أي كنتُ متيقناً بأنه سيموت اغتيالاً، لذا نصحه الكثيرون ومنهم أنا بعدم الذهاب إلى العراق أي قُبيل اغتياله بنحو شهرين، فقال لي: لابد أن أكون هناك فالثقافة تدعونا، والعراق لا ينهض من جديد إلا بالثقافة والمثقفين، لم تقف المسألة هنا بل تم اغتيال أطباء وأساتذة في الجامعات على الهوية، وهم أنفسهم لا يحسبون أنفسهم على هذا المذهب أو ذاك، وحتى الآن لم يُقدم إلى المحكمة أي شخص ارتكب فعل القتل! ومع هذا كله يعتبر الخيون أن المثقف في العراق في أي لحظة من الممكن أن يكون مشروعاً للاغتيال، مشروعاً للموت الأحمر وأن الاغتيالات في العراق هي أكثر شناعة وفظاعة من التفجيرات؛ حيث أن التفجيرات تتم في لحظة، ويمكن تجاوزها كأن لا تخرج من الدار مثلاً، لكن عندما يترصدك شخص بالقتل تتحول دارك إلى كهف أشباح، فمئة دولار تكفي لقتلك، ويمكن تكليف شخص قريب منك، هنا تكمن المأساة، مشيرا إلى أنه تم اغتيال وبعدد كبير جداً من صفوت المجتمع أطباء وأدباء ونساء ناشطات في المجتمع المدني ومن الإعلاميين والصحفيين وعلماء دين وطلبة وحلاقين حتى، لم تنج أي فئة من المجتمع العراق من الموت المجاني. يقول الخيون: هناك فرق بين المسلم والإسلامي فكل إسلامي مسلم ولكن ليس كل مسلم إسلامي، مثلما هم يحاولون تسييد فكرهم على المسلمين كافة، فيصبح سواهم خارج الإسلام، فكل مشروع إسلامي في العراق إنما هو إقصائي يتبنى معادلة "إما معي وإما ضدي" وهو منطق نظام حزب البعث نفسه، لا مكان لأن تكون مستقلاً على الإطلاق، معتبراً أن العراق في هذه الفترة ليس أحوج من خطاب مدني يعزز من مكونات الثقافة، ويلغي هذه الحالة الدموية التي يعيشها اليوم. ويختتم الخيون حديثه قائلاً: إن بغداد التي كانت أم السينما والنوادي الثقافية لم تعد كذلك، على مدى عشر سنوات لم يتم العمل على صناعة نشاطات ثقافية تخدم الإنسان، وترمم النفس العراقية، فتاريخ العراق ليس كله دم، إنما زهت في تاريخه البعيد والقريب الحضارة زهواً صار وجهة لطالبي العِلم، وليصبح التبغدد مصطلح مشهور يقابله التحضر، لكن للأسف الطائفية والعنف لم يُسع للتخفيف منهما؛ لأن الأحزاب الدينية استطاعت بديمقراطية مشوهة أن تغلي النظام السابق لكنها لم تخرج من جلبابه. سنان أنطوان رشيد الخيون محمود سعيد أطوار بهجت نورس النعيمي كامل شياع