منذ أكثر من شهر دعيت للمشاركة في فعاليات معرض الكتاب الدولي في فيينا؛ حيث اختيرت المملكة للمشاركة ضيف شرف في المعرض. دعت وزارة التعليم العالي لهذه المناسبة عددا من المحاضرين من المملكة ومن النمسا للمشاركة في المحاضرات المصاحبة للمعرض. المناسبة مهمة لأن المعرض يقدم المملكة أول ضيف شرف للمعرض. عندما هاتفني الصديق نايف رشدان كنت خارج المملكة، لم تمنعني بعد المسافة من معرفة المتحدث من الوهلة الأولى، قال إنني مدعو للمشاركة في المعرض بأمسية شعرية، هذه أول أمسية لي في أوروبا. عندما قال إن الأمسية في النمسا، تذكرت محمد أسد، المستشرق النمساوي الذي أسلم وعاش وتزوج في المملكة وقابل الملك عبدالعزيز. اللغة التي حملت محمد أسد إلى قلب الجزيرة العربية كاتبا، هي نفسها التي ستحملني إلى قلب أوروبا شاعرا. كلانا إذن يقف على الضفة الأخرى من نهر اللغة الخشن. عندما وصلت إلى فندق (الجراند) المعد لاستضافتنا في فيينا، كان المكان يفوح برائحة الحفاوة العربية. كانت الصحراء قد جرت عباءتها في بهو الفندق وعلقت خلاخيلها على الشبابيك، فأحسست بالدفء رغم الجو البارد الذي كان يمسك بالمكان من تلابيبه. كان الدكتور محمد الحيزان المشرف على العلاقات العامة بوزارة التعليم العالي في استقبالي مرحبا. كان علي أن أنهي في يوم وصولي عددا من الأعمال العالقة قبل أن انشغل ببرنامج المؤتمر: رسالة تزكية علمية إلى إحدى الجامعات في بريطانيا لأحد الطلاب، تحكيم مقترح بحثي لفريق علمي من إحدى الجامعات السعودية، تحكيم ثلاثة أعمال علمية/ تقنية مقدمة لإحدى الجوائز الكبرى، وأخيرا، إرسال مخطوط كتابي الجديد إلى الناشر بعد مراجعته. كان الوقت ما زال مبكرا قبل أن يرخي الليل سدوله، لكنني اكتشفت بعد عمل ساعة أن شاحن جهازي المحمول عاطل عن العمل. لابد أن محمد أسد لم تعترضه مشكلة كهذه. فاستنفدت ما في جهازي المحمول من طاقة، وما فيَّ من عزيمة وخرجت لأشتري شاحنا جديدا. كان الوقت يقترب من السابعة والليل والبرد في كل مكان. بعيد خروجي من الفندق صادفت الناقد الدكتور عالي القرشي، تبادلنا التحية، لكن البرد كان يقطع علينا استرسالنا في الحديث. على أرصفة فيينا تبدو المدينة لابسة أقنعة معمارية؛ ففي الجزء القديم من المدينة، يتم تطوير العمارة من الداخل، أما الخارج فيظل نسيجا واحدا من العمارة الكلاسيكية والكلاسيكية الحديثة. اللون الغالب هو اللون الترابي الذي يذكرني بتربة وادي حنيفة. هل يلتقي وادي حنيفة بنهر الدانوب في اللغة والذاكرة؟ لعل كل مدينة تبرد بالتقنية أظفارها، إلا أن فيينا على الأرجح، لم تغير لونها. في اليوم التالي، التقيت الدكتور صالح المحمود وحضرنا سويا أولى فعاليات المعرض في الجناح السعودي. كان الجناح السعودي الذي يعج بالزائرين أكثر فخامة ووجاهة من أي جناح آخر في المعرض. أما المحاضرات، فكان الحضور من الجانب النمساوي دون المتوسط. هل نحاور أنفسنا حين نلتقي بالآخر، أم نلتقي صورة الآخر فينا فنظنها صورتنا فيه؟ كان المعرض فرصة لألتقي بالأديب عبدالله الناصر الذي سبق ذكره لقائي به. كان يتكلم بصدق وحماس عن دور المملكة الثقافي في العالم، وهو الذي منح عمره لخدمتها في الخارج. توافق موعد المعرض مع انعقاد المؤتمر العالمي لحوار أتباع الأديان والثقافات، لذا كان حضور المملكة في فيينا مضاعفا. وهذا التزامن بين الحدثين مثّل جهدا إضافيا للعاملين في الملحقية الثقافية السعودية في النمسا على رأسها الدكتور علي بن صقر. ثقافتنا تحتاج إلى عمل مستمر لتصل إلى الآخر. فقد أظهر جناح المملكة في معرض فيينا أطياف هذه الثقافة المتنوعة التي تمثل نسيجا ممتدا عبر التاريخ والجغرافيا. وهذا التنوع الثقافي المحلي يخالف الصورة النمطية التي ترتسم في أذهان كثير من شعوب العالم، التي في النهاية لا ترى من المملكة سوى صحرائها الجميلة ومواردها الطبيعية الغنية..