ترددت قبل أشهر قليلة مضت نقاشات في كافة وسائل الإعلام عن مشكلة تجاوز المديونية الأمريكية سقف الائتمان والتخوف من تأثيراتها اللاقتصادية السلبية على الدولار ومن ثم على دول العالم. وحيث ان الاقتصاديات الخليجية ومنها المملكة ترتبط عملتها مباشرة بالدولار الامريكي أردت ان أوضح كيف تؤثر ارتفاعات المديونية الامريكية على اقتصاد المملكة والمواطن السعودي. ونبدأ بنبذة بسيطة عن المديونية الامريكية حتى نستطيع ان نعرف تأثيرها على المواطن السعودي. ففي أقل من عامين، اقبلت الولاياتالمتحدةالامريكية على حافة التعثر في سداد ديونها الخارجية تبعا للجدال السياسي داخليا حول رفع سقف الائتمان في امريكا. فقد وصل حجم الدين الى الى 16.7 تريليون دولار في مايو 2013، ومنذ ذلك الوقت لجات الخزينة الامريكية الى استخدام معايير غير معتادة لتستمر في سداد مدفوعات الدين، الى ان اعيد رفع سقف الائتمان بموافقة الجهات المختصة هناك. بلا شك أن امريكا هي اكبر الدول مديونية في العالم حجماً، وكان وما زال ارتفاع مستويات الدين مصحوبة بزيادة موائمة في سقف الدين. ويتوقع ان تصل المديونية الامريكية الى 23 تريليون دولار بحلول عام 2018. وذلك يشكل نسبة نمو حوالي 43% سنويا في المتوسط خلال العشرين عاما الماضية. ورغم ان نسبة الدين الى الدخل القومي في امريكا وصلت الى 103% وهي اقل من بعض الدول الاخرى في العالم مثل اليابان وايطاليا الا انها تأتي في المرتبة الثالثة بين الدول المتقدمة في نسبة الدين الى الدخل، مما يثير الكثير من التساؤلات والمحاذير فيما اذا ما استمرت المديونية الامريكية في النمو بهذه النسبة المرتفعة بكل المقاييس. وفي تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، فانه اذا عجزت امريكا عن سداد فوائد الدين لعام واحد فقط فان ذلك يجر الاقتصاديات العالمية الى كساد تتفاوت درجته من دولة لاخرى. وقدرت في تقريرها الكساد المترتب على ذلك بنسبة 7% في امريكا نفسها، وفي الصين ب حوالي 2% وفي العالم بنسبة 2.5% في المتوسط. وهذا بدوره بلا شك يؤثر من جهة اخرى غير سعر الصرف على المملكة ومثيلاتها من الدول التي تتبع سعر الصرف الثابت مقابل الدولار. ليس فقط من الكساد الامريكي وانما حتى الكساد في الصين مثلا التي تعتبر من الدول التي توثر في التوازن العالمي الاقتصادي. واذا ما نظرنا الى محفظة الدين للدولار مقابل اليورو فمنذ عام 2008 ارتفعت نسبة المديونية الامريكية عنها في منطقة اليورو وذلك من الناحية المطلقة والنسبية الي الدخل القومي. بينما على العكس تناقصت هذه النسبة في الدول الناشئة ليصل معدل الدين الى الدخل القومي ما نسيته 35% فقط في عام 2012. وكذلك فان العجز المالي للميزانية الامريكية فاق ضعفي مثيله في منطقة اليورو مما يشير الى ان المركز والوضع المالي لمنطقة اليورو اكثر قوة منه في امريكا (انظر الشكل 1). من خلال هذه النظرة الموجزة للمديونية الامريكية ومقارنتها بدول العالم الاخرى المتقدمة والناشئة أود أن القي بظلال ذلك على القدرة الشرائية للريال السعودي ونسبة التضخم في المملكة. خاصة وان المملكة ليست بمعزل عن تأثيرات المديونية الامريكية على دول العالم الاخرى التي تمتلك استثمارات ضخمة في سندات الدين الامريكية مثل الصين والتي تطالب الولاياتالمتحدة بالانتباه والحذر من التجارب السابقة في التاريخ من الخوض في ازمات مالية تضعف من الدولار ومن ثم التزاماتها بالسداد للصين وغيرها من المستثمرين في اذون الخزانة الامريكية. ان الأزمة الاقتصادية وما سيترتب عليها من انخفاض سعر الدولار واهتزاز الثقة فيه، سيؤدي الى انسحاب رؤوس الأمواال الأجنبية من الاقتصاد الامريكي. كما سينعكس بنتيجة سلبية على الدول الدائنة لأمريكا، حيث ستنخفض قيمة مديونيات تلك الدول بنتيجة طردية، وعلى رأسهم الصينواليابان، التى تبلغ مديونيات أمريكا لكل منهما حوالي تريليون و250 مليار دولار فيما تأتي مديونيات العرب بقيمة 400 مليار دولار. وحيث ان المملكة العربية السعودية تتبع رسميا سياسة سعر الصرف الثابت مقابل الدولار، فان انخفاض قيمة الدولار لن يؤثر على سعر صرف الريال الاسمي مقابل الدولار وهو 3.75 ريالات لكل دولار، الا انه بلا شك سيوثر على القدرة الشرائية الحقيقية للريال سلبا. وذلك في صورة انخفاض في القدرة التنافسية للريال من خلال ارتفاع سعر الصرف الحقيقي الثنائي للريال مقابل الدولار اذا ما تم اخذ فروق التضخم بين المملكة والولاياتالمتحدة، ومن خلال قياس سعر الصرف الحقيقي للريال معدلا بفروقات التضخم بين المملكة وشركائها التجاريين الرئيسين (وهو الاكثر دقة لحساب سعر الصرف الواقعي للريال). ان ارتفاع سعر الصرف الحقيقي للريال يقلل من قدرة المملكة التنافسية من خلا 3 اوجه رئيسية، اولا: يقلل الصادرات ويشجع الواردات مما يؤثر سلبا على الميزان التجاري للمملكة. ثانيا: ان تخفيض قيمة الدولار يرفع من سعر الواردات السعودية التي تأتي اغلبها من منطقة اليورو والشرق الاقصى مما يرفع مستوى التضخم في المملكة. ثالثا: ان ارتفاع قيمة الريال مقابل الدولار مع ثبات سعر الصرف يؤدي الى انحدار القيمة المحلية للاحتياطي النقدي للمملكة وعائداته، اي بمعنى ابسط اننا ندفع قيمة اكبر للدولار بالريال السعودي مما يجب. وقد تم تقدير تأثير انخفاض قيمة الدولار مقابل سلة من العملات الى ارتفاع سعر الصرف الحقيقي للريال في نطاق من 1.5 – 2.5 ريال للدولار من خلال 3 سيناريوهات لانخاض الدولار اولا: هو الوضع الحالي للريال مقابل الدولار، ثانيا: لو انخفض الدولار ب 10% من قيمته وعلاقة ذلك بالريال، واخيرا: لو انخفض الدولار بنسبة 20% من قيمته (مساواة باليابان وانخفاض قيمته بأكثر من 20%) وهذه السيناريوهات الثلاثة هي نفس الفرضيات التي كانت تناقش بين الدول الكبرى مع امريكا خلال ما يسمى بحرب العملات (شكل 2). مما يعني اننا ندفع 3.75 ريالات احتياطيا لكل دولار بينما يجب ان ندفع 1.5- 2.5 ريال فقط لكل دولار. كما ان المملكة يمكن ان تصل خسارتها الى 60% من قيمتها اذا ما انخفض الدولار بشكل حاد جراء عجز امريكا عن سداد دينها. ومن ثم ينعكس ذلك بشكل كبير سلبا على قدرة المملكة على تمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية لديها. والمواطن سيعاني بشكل كبير من معدلات التضخم المستورد لان قيمة الريال الاسمية اقل من قيمته الحقيقية. أي ان المواطن يدفع مثلا 100 ريال لشراء سلعة قيمتها الحقيقية بين 60-70 ريالا فقط حقيقة لان الريال سعره اقل من الحقيقة. عوضا عن أن احتياطيات المملكة سيكون من الصعب اخذ عوائدها اذا لم تستطع امريكا سداد فوائد الدين للمستثمرين في سنداتها، وكذلك سيصعب جدا بيع او تسييل هذه السندات لعدم وجود مشترين عند اهتزاز الثقة في هذه السندات مما يعني صعوبة استرجاع المملكة لاحتياطياتها او تغيير مسار استثمارها. وبالتالي تنخفض القيمة الحقيقية للريال اقتصاديا. بعد استعراض الأخطار التي تحدق بالريال، لابد من تغيير هيكلي للسياسة النقدية في المملكه على المديين القصير والطويل. في المدى القصير تلعب سلة العملات من الشركاء التجاريين ومراقبة نمو اقتصادياتها ومعدلات التضخم فيها، بالاضافة الى ضرورة التنسيق بين السياسات المالية والنقدية بشكل جذري في كل الاوضاع والمشاريع الاقتصادية، بحيث تؤدي دورا هاما في استقرار احتياطيات المملكة المالية ومن ثم قدرة القطاع الخاص على التفاعل والتخطيط المستقر لأعماله. أما في المدى الطويل فلابد من ان تعمل السياسات المالية للمملكة على تقوية القاعدة الاقتصادية والتغيير المحوري الجذري في سياسة الاستثمار الداخلية والمالية وعمليات الخصخصة وهو ما تسير المملكة فيه ولكن بوتيرة أبطأ بكثير مما يجب خاصة في ظل التوترات الاقتصادية والسياسية في العالم حاليا. * بنك جلف ون للاستثمار