إذا دقّق المرء في سيرة عدد وافر من الأدباء العرب الكبار في القرن العشرين، وجد أنهم حاولوا في المرحلة الأولى من مراحل حياتهم أن يكتبوا الشعر، أو أن يكونوا شعراء، ولم يوفّقوا فانصرفوا إلى أجناس أدبية أخرى. فطه حسين كتب الشعر في مقتبل عمره، ومن يطلع على الشعر الذي كتبه لا يلومه على قرار عزوفه عنه.. وأمضى العقاد حياته وهو يتعامل مع نفسه ومع الجمهور على أنه شاعر كبير لدرجة أنه نظّم بعد رحيل شوقي مهرجاناً لمبايعته بإمارة الشعر، فلم يسلم له بعد نضاله الشاق مع الشعر سوى لقب «الشعرور»! أما توفيق الحكيم الذي عرفه القارئ العربي كاتب مسرحية ورواية، والذي قد يظن البعض أنه نجا من محاولة كتابة الشعر، فقد خرج في سنواته الأخيرة ليقول إن لديه شعراً كثيراً كتبه زمن الصبا والدراسة في باريس بالفرنسية وبالعربية معاً، وأنه طوى هذا الشعر ولم ينشر إلا بعضه في كتابة «رحلة الربيع والخريف». على أن أمر الحكيم مع الشعر لم يقف هنا، فقد تجاوز ذلك إلى قول أخطر فاجأ الكثيرين في زمانه، ويفاجئهم اليوم، فقد ادعى أنه هو وليس سواه، مؤسس الشعر العربي الحديث، وأن له ملاحظات قاسية على هذا الشعر العربي الحديث كما مورس ويُمارس ذلك أن شعراء الحداثة العربية ربطوه منذ نشأته في بداية الخمسينيات من القرن الماضي بالشعر الغربي، وبذلك أفقدوه الأصالة التي يحتاج إليها. فبدلاً من مرجعية ث.س. إليوث وعزرا باوند وإديث سيتويل وبقية هذه الأسماء الغربية، كان ينبغي بنظره العودة إلى التراث العربي القديم، وبخاصة إلى القرآن الكريم، لاستيحائه واستلهامه. وهذا ما يفعله شعراء الحداثة في كل مكان في العالم من أجل تأصيل شعرهم. ذلك أن «إليوث» رغم الاغراء الذي يقدمه هو وأمثاله لشعراء البلدان الأجنبية الساعين إلى تأسيس حداثة محلية، لا يمكن أن يقدم لهؤلاء المدد المفترض أن يقدمه. فهو أجنبي وحداثته الشعرية إنكليزية أو أميركية أو غربية، وجل ما يستطيع تقديمه للشاعر العربي هو أن يطلع هذا الشاعر على شعره وأن يستأنس به، وهذا كل شيء. ولكن ما هو الشعر العربي أو الفرنسي الذي كتبه الحكيم في منتصف العشرينيات وطواه بعد ذلك ثم أيقظه من جديد من دفاتره القديمة في أواخر حياته؟ لقد اطلعت على هذا الشعر من الحكيم شخصياً مثل أن اقرأه لاحقاً في أبحاث تناولته. فوجدته - وبإيجاز - من هذا النثر المرسل الذي شاع أيما شيوع في صحافتنا العربية وفي عالم النشر العربي في الأربعين سنة الماضية. نثر يقلّد فيه الحكيم النثر الشعري، أو قصيدة الشعر، كما شاع هذا النثر وكما شاعت هذه القصيدة في الآداب الأوروبية والأميركية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وصولاً إلى اليوم. خلا هذا النثر المسمى شعرياً من ضوابط الشعر المعروفة، كما خلا عن ضوابط النثر أيضاً إذ كتب في غياب تام للمنطق أو للعقل. في تلك الفترة - فترة العشرينيات - كان الحكيم يطلب العلم في باريس، وقد عُرف بتوجهه المسرحي والروائي ولم يكن لديه ما يؤهله لكتابة قصيدة عربية سوية، سواء على الطريقة الخليلية أو على أي طريقة أخرى. فخزانته العربية، تراثية أو غير تراثية، خزانة محدودة إلى أبعد الحدود. وهذه الخزانة لا تؤهله بالطبع ليخوض غمار الشعر العربي بأي طريقة يكون هذا الخوض. والشعر كما هو معروف يحتاج إلى محصول وافر من اللغة، وبدون هذا المحصول اللغوي الواسع الثراء من تراث العربية، لا يستطيع الشاعر أن يخطو خطوة واحدة على طريق الشعر، مهما كان من ثراء نفسه وروحه ومخيلته. وقد مرّت سنوات طويلة على عودة توفيق الحكيم من فرنسا، دون أن يخطر ببال القارئ وهو يلتقي بتوفيق الحكيم في مقهى أو في صفحة من صفحات الجرائد المصرية، أنه يلتقي بشاعر اسمه توفيق الحكيم، بل بكاتب مسرحية وكاتب رواية، وبشخصية ظريفة يتهمها الناس بالبخل في حين يتبرأ هو من هذه التهمة.. وعلى مدى سنوات طويلة صدر للحكيم كتب كثيرة تدور في اطار المسرحية والرواية والسيرة الذاتية وغير ذلك، إلا في الشعر، فكيف أمكن للحكيم أن يدعي في نهاية حياته أنه كان أمير الشعر العربي الحديث، وأنه إليه ينبغي أن تُنسب ريادة هذا الشعر عند العرب، وليس إلى أحد غيره؟ للحكيم تعليله في هذه المسألة. فهو يقول إن شيطان الفن عنده ارتدى ثوب التمثيلية وثوب الرواية قبل أن يلتفت إلى صوب القصيدة الشعرية، ولما وصل إليها كمن واستقّر ولم يعد يفكر في الخروج إلى أثواب وأشكال أخرى! يضع الحكيم أيدينا على بداية محاولاته التي يسميها في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه «رحلة الربيع والخريف» قصائد شعرية نثرية. ثم يقف حائراً في مقدمة الطبعة الثانية لنفس الكتاب متسائلاً: لست أدري إلى أي مذهب شعري بالضبط يمكن أن ينتمي هذا النوع»! ويضيف الحكيم: ولقد أغراني هذا الفن الجديد في السنوات العشرين من هذا القرن - وأنا في باريس - بالشروع في المحاولة. فكتبت بضع قصائد شعرية نثرية من هذا النوع، وهو لا يتقيد أيضاً بنظم إلا بقالب معروف، أهملتها فيما بعد بالطبع لأن اتجاهي الأصلي كان إلى المسرح، لكن الحكيم الذي مزق أكثر ما كتب في هذا المجال احتفظ لنا ببعضه ليسجله في كتابه «رحلة الربيع والخريف» فيقول في مقدمته: من تلك الأعمال التي مزقت أكثرها، لم أعد أعثر إلا على هذا القدر من مقطوعات، بعضها مكتوب في الأصل على النسق النثري المفصل الجمل والفقرات. يحدد الحكيم فترة كتابته لهذه المقطوعات الشعرية/ النثرية، فهو يقول إنه كتبها بين عامي 1926 و1927 ولكنه لم ينشرها في حينه وإنما طواها، ولكنه لو نشرها، وبصرف النظر عن مستواها، لكان سبق بلاشك مؤسسي الشعر الحر، أو الشعر المنثور في العالم العربي باعتباره واضع النموذج الأول له، كما وضع نموذج التمثيلية الأدبية والرواية والقصة.. ولا تقف مفاجآت الحكيم «الشعرية» عند حد. فهو يضيف أنه زمن الدراسة في باريس كتب أيضاً قصائد بالفرنسية سماها «قصائد عربية»، فهو على هذا الأساس شاعر عربي فرنكوفوني أيضاً، كما هو شاعر رائد في هذا المجال. ولم ينشر الحكيم في حينه (بين 1926 و1927) شيئاً من هذا الشعر وإنما أخفاه بين أوراقه. فهل يصح له، والحالة هذه أن يدعي ريادة الشعر العربي الحر، أو شعر قصيدة النثر، وليس هناك في النشر العربي في حينه ما يؤيد هذه الدعوى أو هذا الادعاء؟ لم يكن الحكيم، وهو من هو في عالم المسرحية والرواية العربية، بحاجة إلى «قصيدة نثر» بالعربية أو بالأجنبية كتبها في العشرينيات من القرن الماضي، ليدعم بها عمادته الأدبية في تراثنا الأدبي المعاصر. فهو من الأسماء المرموقة في مجال ما عُرف واشتهر به. ولكن يبدو أن فكرة الريادة والتأسيس فكرة ذات شأن في نفوس المبدعين يضعفون أمامها حتى ولو كانت ريادة نصوص قصائد نثر لم تقدّم أو تؤخّر، في حقيقة الأمر في مسيرة الأدب والشعر العربي الحديث والمعاصر، ولكن يبدو أن الحكيم كان يرتّب في سنواته الأخيرة أوراقه وملفه الأدبي فعثر بين أوراق صباه على أوراق كتب ويكتب مثلها كثيرون ولا يلتفتون إليها، فحاول أن يقف عندها ليتأمل ويتساءل عما كتبه وعما إذا كان يستحق أن يضيف إلى ألقابه - وما أكثرها - لقب مؤسس الشعر العربي الحديث.. لم تكن هذه المسألة ذات شأن في سيرة هذا المسرحي والروائي والعربي الكبير، ولكنها تدل - في جملة ما تدل عليه - على أهمية الشعر وكونه حلم كل كاتب وكل مثقف. وإلا فلماذا يقف الحكيم على أطلال أوراق قديمة كتب مثلها في حينه، ويكتب اليوم، الكثيرون ويطبعها بعضهم دون أن يلتفت إليها أحد؟ أليس ذلك مرتبطاً بسحر وكونه الشهوة التي يطمح إليها كل الأدباء حتى ولو كانوا من كبار الأدباء؟ يقول توفيق الحكيم: لقد أغراني هذا الفن الجديد في السنوات العشرين من هذا القرن - وأنا في باريس - بالشروع في المحاولة. فكتبت بضع قصائد شعرية نثرية من هذا النوع، وهو لا يتقيد أيضاً بنظم إلا بقالب معروف، أهملتها فيما بعد بالطبع لأن اتجاهي الأصلي كان إلى المسرح، لكن الحكيم الذي مزق أكثر ما كتب في هذا المجال احتفظ لنا ببعضه ليسجله في كتابه «رحلة الربيع والخريف» فيقول في مقدمته: من تلك الأعمال التي مزقت أكثرها، لم أعد أعثر إلا على هذا القدر من مقطوعات، بعضها مكتوب في الأصل على النسق النثري المفصل الجمل والفقرات.