أأرثيك أبا أحمد.. وأنى لحي أن يرثى!؟ أأبكيك أبا أحمد.. وفيم أبكيك!؟ أأنعيك أبا أحمد.. ولمن أنعيك!؟ أأرثيك وأنى لميت أن يرثي الحي فأنت أبا أحمد حي ونحن الميتون! أنت الحي بمآثرك وتأريخك وأنت الحي بعلمك وأفعالك وأنت الحي بعطائك وأبنائك محمد الأحمد الرشيد.. هكذا بدون ألقاب كما أراد أن يعيش وكما أحب أن يعاملوه.. وكما يعيش الآن مجردا من كل لقب. محمد الأحمد الرشيد إرث تربوي وإرث تعليمي وإرث من القيم يستند عليها بكل شموخ ويقف أمامها بكل عز ويورثها لمن بعده بكل فخر (يارب حي رخام القبر مسكنه/ ورب ميت على أقدامه انتصبا) أأبكيك أبا أحمد أم أبكي مجتمعا أدرك ذات يوم أنك (مظلوم) فلم ينتصر! أأبكيك أبا أحمد أم أبكي مجتمعا (ادكر بعد أمة) واكتشف أنك على حق فأخفاها في نفسه ولم ينطق!؟ أأبكيك أبا أحمد.. أم أبكي مجتمعا عاد وعيه بعد غياب واستيقظ ضميره بعد سبات و(كفى بالموت واعظا) أأنعيك أبا أحمد.. ولمن أنعيك!؟ لأسرة وأبناء كانوا مصدر فخر لك كما كنت تقول.. فأصبحت مصدر فخر لهم كما يشعرون. أم أنعيك لأسرة أكبر إنهم رواد مجلسك الأسبوعي الذين لا يعلمون كيف سيكون بعد رحيلك وبدون حضورك!؟ أم أنعيك لأسرتك الحقيقية أسرة التربية والتعليم ولكل منتم لهذه المهنة الشريفة!؟ أم أنعيك لكل من عرفك عن قرب أو من قرأك عن بعد أو لمن سمع منك أو عنك!؟ عرفت الدكتور محمد الرشيد عن قرب قبل 40 عاما عندما كنت طالبا في كلية التربية بجامعة الرياض (الملك سعود) ينزل عند الحادية عشرة صباح كل ثلاثاء إلى مطعم الكلية يجلس إلى الطلاب في لقاء مفتوح يتبادل معهم الرأي ويسدي لهم النصح ويحل لهم المشاكل ودخلت مكتبه مرتين دون إذن مسبق فكان مفتوحا لكل طالب وأستاذ على حد سواء. وتابعته مديرا لمكتب التربية العربي لدول الخليج ومؤسسا لجامعة الخليج. ثم وزيرا ومسؤولا.. ومترددا على مجلسه الأسبوعي.. وقارئا ومطلعا على معظم ما يكتب ويقول ويصدر من قرارات.. ثم اكتشفت في ثلاثة أيام أنني لم أعرف الرجل أو أنني عرفت عنه شيئا وغابت عني أشياء. وحتى أبناؤه الذين هم الأقرب والأكثر معايشة اكتشفوا ذلك! جاء محمد الرشيد إلى (وزارة المعارف) في زمن غير زمنه لا من حيث الوضع الاقتصادي لدولة خرجت للتو من حرب الخليج الثانية متحملة كبرها بعد ركود اقتصادي عالمي سبق الحرب. ولا المناخ السائد اجتماعيا في ظل تيارات وأيديولوجيات وجدت في تلك الفترة بيئة مناسبة لمد جذورها وبسط نفوذها. ولا من حيث الإرث الذي وجده في جهاز ظل عقدين من الزمن دون أن تطاله رياح التغيير والتطوير. واستطاع بحنكته أن يتغلب على بعضها وأن يتجاوز بذكائه البعض الآخر وعجزت طيبته ونياته أن تتعايش مع مناخها وتحمل بصدقه وإيمانه بعضا من أوزارها وقاد حملة تصحيح كبرى بدءا من تغيير الاسم إلى وزارة التربية والتعليم وهو التغيير الذي لم يكن ظاهريا فقط أو مسايرة لعرف سائد بقدر ما كان تغييرا للمفهوم وتعبيرا عن المضمون ودليلا لما يجب عليها أن تكون. جاء إلى الوزارة.. ووضع مقولته المشهورة شعارا لها (وراء كل أمة عظيمة.. تربية عظيمة.. ووراء كل تربية عظيمة معلم) وجاهد لكون هذا الشعار حقيقة واقعة فحفظ للمعلم قدره وللطالب قيمته وللمنهج رونقه وسعى أن يكون المبنى المدرسي بيئة جاذبة واستصدر عددا من القرارات من الجهات العليا كانت ذات يوم خطوطا حمراء بالاستثمار الذاتي عندما شح المورد المالي وأعطى مديري المدارس صلاحة الإيراد والصرف. في زيارتك الأخيرة أبا أحمد وصحبك الكرام من أكاديميين ومثقفين إلينا في عودة سدير وبطلب منك بعدما لمسته في الزيارة الأولى أخجلتنا كعادتك بلطفك وعباراتك وتواضعك وأخجلتني شخصيا أمام هذا الجمع وأمام كل جمع تجدني فيه وأنت تتحدث عن "أمسية الوفاء" عندما شرفتني أن أحتفي بك وبمديري المراحل الدراسية التي تلقيت تعليمي فيها تثني عليها وعلى شخصي المتواضع وهذا كرم منك وما هي والله إلا نعمة أنعمها الله علي لأرد لك ولهم بعض الجميل فأنى لتلميذ أن يحظى بشرف الثناء من معلمه ويبادله العرفان والوفاء. في زيارتك كنت كعادتك في مرحك وحيويتك وحدثني أحد صحبك فيما بعد أنك كنت أسعد ما تكون في تلك الزيارة بحديثك عنها في مجالسك ولمعارفك. رحلت أبا أحمد وصحبك على وعد أن نلتقي وداعبتني في تأخري عن مجلسك بعض الأحيان. نم قرير العين فقد كان (زمانك بستانا.. وعصرك أخضر) وستظل (ذكراك عصفورا من القلب ينقر) نم أبا أحمد كذلك لأنه (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أوولد صالح يدعو له) وحسبي أنك حزت الثلاث.. فقد تجلت صدقاتك في ابتسامتك الدائمة للمختلفين معك قبل المتفقين وفي شفاعاتك لمن تعرف ومن لا تعرف وإنسانيتك للكبير والصغير والقريب والبعيد ونفع الله بعلمك كثيرين ممن تتلمذوا على يدك واستمعوا إلى قولك أو نهلوا من معين فكرك. ورزقك أبناء صالحين بارين بك في حياتك ويلهجون بالدعاء لك بعد مماتك. رحمك الله أبا أحمد وغفر لك وجعل ما قدمت في موازين أعمالك وجمعنا بك في مقعد صدق عند مليك مقتدر.