بيني وبين البرد عهدُ احتياج.. لاتدُثرني فيه تلك الأحلام الساحلية القديمة، ولايتركني أنثر السلام كما أشاء في الوجوه الصباحية العابسة، إنه (جلاّد الفقير) كماقال جدي، ومدينة الخوف كما يقول صمتي، وحقيقة الجوع كما تقول أحلامي المنهكة من تكراره دون وطنٍ صغير يحمل أبنائي للدفء حتى بعد موتي..! لاأعرف بصدق لماذا ارتبط البرد بالوحشة في روحي الشاعرة.. ربما لأن أرواح الشعراء عارية غالبا يخترقها البرد، وتعتريها رعشة البلل ويجتاحها الليل كغولٍ كلما اشتهاها السهر في ليلةِ قصيدة... ربما يرتادني الشعر كثيرًا في الشتاء.. حين تحاول تلك القصائد التي أنفقت عمري عليها أو أكاد من أن تدثّرني قليلا بوهجها حينما تبشّرني منذ أن كنت طفلا بضوء خالد ووهجٍ دافئ وتاريخٍ موعود.. لكنني آمنت منذ زمن طويل أن الشعراء الذين يعيشون طويلا ماتوا طويلا، وأن الشاعر الحقيقي لايحتاج أكثر من حزنه، ولايكتمل إلا بروايته، ولا ينتظر إلا حسدَ الآخرين عليه..! لهذا لم تكن رعشة الشتاء إلا قصيدة ولم تكن تلك القصيدة إلا عمراً مدفوع الثمن فالموت فيها حياة لها، والامتثال لها امتثال للتاريخ حتى وإن كان في ذمّة الآخرين... *** شتاء الرياض طويلٌ .. ثقيلٌ .. كقافيةِ جاهليةْ...! جمعتُ به كل من رحلوا ثم لم يرجعوا شبكتُ أصابع وقتي به ثم.. بتُّ أسبّحُ ساعاتِه وأنام وحيدًا كغصنٍ يطلُّ على الدربِ يهصره العابرونْ كسيّارة موسميّة: ويابحر.. (أين زوارق العشاق من سيارة تغدو ببنت هوى..!؟) شتاءُ الرياض.. تفصّد كالحزنِ فوق جبيني.. تخثّر في طُرقاتِ النهارِ.. وفي عثراتِ الظلالْ .. تركتُ يدي فوق كرسي اللقاء.. تسرّح آثارها الذاهلةْ..! ويابحر: (أين الموج والشعراء والنجم المشعّ هوى) شتاء الرياض جياعٌ صغارٌ وسدرة مقبرةٍ ذابلة *** آيلٌ للحنينْ ... منذ عشرين يوما مضتْ.. أحتسي قهوةَ الصبحِ من بعدها رعشةً، ودبيبُ البرودةِ ينخرُ صوتي.. الكلام بحنجرتي يستجيرُ بصمتي منذ عشرين يوما مضتْ..: (نفذ اليوم مصروف بنتي) حقيبتها في خزانة مشفى ومحفظتي عرضة للسنينْ .. شتاء الرياض.. التخبّط في الدربِ.. أي الدروب ستفضي إليها وأي الأطبّاء أفطنُ قلبًا.. شتاء الرياض الطويل الثقيل البدينْ..! *** الشتاء.. بباب الرياض قصائد مجهولة النشء مغسولة البرد.. مكفولة بالقراءة الغيوم لعاب الإضاءة والشوارع.. مدّت لسان الرصيف إليّ وأعشبتِ الكبْرَ.. واليتم.. والسِّحَنِ العابسة..! حينما يحفر البرد في جسد السادسة.. أرتدي جوربَ الذكرياتِ.. وقبّعة الصوفِ.. والأغنيات العتيقةْ وأحمل بين ضلوعي سؤال الصغار وصوت الصديقة..! أثقب الصبح.. بالهاتف الخلويّ .. وأشعل أغنيةً من بكاء..: (صباحكِ أنتِ) شتاء الرياض غبار الظنون.. وبرد الفقيرْ.. مفاصل ليلٍ بلا نجمةٍ.. وحنينُ الغريبيْن في طرقاتِ التذكّرِ ينتعلون المصيرْ شتاء الرياض.. بلا أصدقاء