قبل أن نسأل السؤال المتردد دوما بيننا وهو: هل الماضي أجمل وأسعد من الحاضر؟ نأخذ مدخلا بيئيا لا بد منه عن جغرافية المكان الذي يعيش فيه مجتمعنا. فالأرض صحراوية أو شبه صحراوية والمنطقة مدارية ذات مناخ حار، وأيضا تجتمع حول بعضها المتناقضات أو المتباينات تضاريسياً، فالرمال الناعمة بجوار الجبال الشاهقة والوديان المنخفضة تفيض على السهول المستوية، وحولها الهضاب البارزة ، وكلها تلفحها رياح السموم وتتردد فيها العواصف، وقد تدثرها سماء صافية معظم الأوقات تبهج ساكنها في الليل وساعات المساء أو لحظات نسيم الصباح ثم لا يمر سوى وقت قصير فتكون عواصف في وسط النهار وقد لا تسكن ولا تهدأ إلا بعد أيام، لا تكاد تزورها السحب والغيوم أو يظللها الغمام أو يلحف تربتها غطاء أخضر يحميها ما عدا شجيرات شوكية متناثرة لا يستظل بها مسافر ولا يقتات منها حي. هو الوقت اختلف يا ناس والا الناس مختلفين أنا وان قلت دنيا مدبره ما نيب منلامي نردد دوماً ذكريات من الماضي جرت وتكونت في بيئتنا الاجتماعية وحياتنا حتى كدنا نأتي على كل خفاياها تغطية وتفصيلا بحروف النثر والشعر والقصة، وريشة الرسام وحكاية الجدات، فلم يبق فيها زاوية معتمة عن رؤيتنا أو غامضة عن مخيلتنا، ونصر في كل مرة نستطلع فيها ماضينا وما كان عليه، انه قمة نقاء وعلى أنه بلا رتوش ولا عيوب ولا نقاط معتمة ولا ظلال قاتمة فيه، والسعادة كل السعادة في أركانه، متجاهلين الكثير من المعاناة لنجعلها بعد انسحابها وغياب شمسها وزوال تأثيرها، ماضيا سعيدا وهذا ضرب من التفاؤل يحمد لنا، هكذا هو إحساسنا حيال كل شيء انصرم وزال وقته وحل محله وضع مختلف جديد، والحقيقة أن الماضي بكل مكوناته لا يختلف عن الحاضر ولن يختلف عن المستقبل من حيث احتوائه للمنوع من الحلو والمر والشدة واللين والفرح والترح، وضمه للسهل والصعب والمقبول والمرفوض، والسعادة والشقاء، فهو امتداد لما قبله متواصل مع ما بعده والإنسان معه في صراع مع البقاء والأخذ والعطاء. ونعود للسؤال الذي بدأنا به: هل الماضي أجمل من الحاضر؟ سؤال سأله أحد الشباب في مجلس ضم مختلف الأعمار وكنت أسمعه، وقال بالحرف الواحد وتبدو عليه علامات القناعة بما يقول: الماضي الذي أسمع عنه وأتوقعه وأقرأ ملامح منه ليس أحسن من الحاضر، الماضي فيه الكثير من المعاناة فيه أشياء مؤلمة ومحزنة وليس كما يصوره البعض. الماضي فيه جفوة واضحة إما من الأب أو الأم أو أحد أفراد الأسرة وربما فيه الكثير من الجمود والقسوة، وفيه غياب تام لكلمات العطف والرقة، فيه جفاف، وفيه المرض والجوع والسطو، وقطع الطريق (الحنشل) والغزو أو التسلط والقوي يأكل الضعيف والفقر يضرب أطنابه في كل مكان، فلماذا تتغنون به وتحنون إليه ولماذا هذا المديح له دوماً؟ ثم يأتي من له رؤية أخرى فيقول: نعم الماضي أكثر من الحاضر استيعاباً لرغبتنا في الإسعاد والأنس والهدوء والبساطة عن تجربة وليس خيالا عابرا في رواية ، فقد عشناه والغالبية منا عاش طرفاً منه، فما جفيناه وما جفانا، فكانت جذور النبتة الأولى من حياتنا تغذت منه وبراعمها نمت في مجتمع القرية البسيط، وفي كل جوانب حياة الإنسان هو سهل وقريب من الطبيعة، في نومه ويقظته وأكله وشربه وتعامله وآماله بعيد عن التكلف قريب من البساطة والتلقائية. في منظور كبار السن ومن عاش ذاك الزمان المنصرم، لا يزال الماضي أجمل من الحاضر، ولم نجد إلا القليل من الناس يصفون الماضي بصفات سلبية، إنما الأكثرية يحنون لكل ما يمت للماضي بصلة، سواء كان تراثا ماديا كالمباني والمقتنيات أو ذكريات أو تاريخا، وتجذبهم حتى رائحة الطين وجدران الدور التي تعانقت متهدمة حزنا على فراق أهلها وجثت سقوفها باكية تسد الطريق. مع هذا كله نريد الآن العودة للتأكد عن مدى إنصافنا بين الزمانين اليوم والأمس والبحث بشكل مقنع موضوعي وحيادي، هل بالفعل الماضي جميل إلى هذه الدرجة التي ذهبت بالألباب؟ اليوم هناك كم كبير منا مجند تلقائيا لأن يجعل للماضي حضوره في حياته ليس في المخيلة فحسب ولا ركن من الذكريات التي يزور أرشيفها وقت فراغه ولكنه أبعد من ذلك، إنه ينادي ما أمكن من بقاياه، ويستدعي شريط مكوناته ويصر على أن يعيش ماضيه بمادياته ومعنوياته ، وصار التعلق به سمة من سمات الثقافة ، وصار الماضي بسبب هذا التعلق حاضرا على شكل ملابس ومهرجانات وقرى تراثية وأسواق ومصنوعات وقصائد وقصص وروايات وكل هذه تزاحم الحاضر بإصرار وكأنها تزدريه أو ترفضه أو على الأقل لا تقبل أن تعترف به. لدينا مبررات عدة وافتراضات كثيرة حول هذا الاتجاه الذي نقوم به، بل ولدينا تعليلات يمكن أن يستدل بها على كثير من تعلقنا هذا، منها: ان ذلك هروب من الواقع وربما هو رفض له وربما هو حنين إلى بعض الأمس كالطفولة أو بعض ذكريات حياة أهل القرية والبساطة التي كانت فيها فشمل الكل. أو أنه رغبة في استنصار وتجنيد الذكريات والتقوي بها ضد الحاضر وهذه صفة من صفات معاداته، وهذا يعني محاولة إضعاف الحاضر بسبب عدم تقبله، مما يزيد في مدح الماضي وبالتالي جيشت هذه الذكريات كجنود تقاتل الحاضر وتستنهض الأمس حتى ولو كان يحتضر. أو أنه رفض الواقع والهيبة منه والشك فيه والتوجس والريبة حياله بلا أسباب أو أنها السلبية التي يتصف بها البعض وعدم القدرة على مواجهة الحاضر وربما العكس أيضا أي: الإيجابية من خلال بناء جديد على أساس تجربة سابقة مستمدة من تجارب الأمس وخبراتنا فيه والاطمئنان لها، وهذا الفكر حول القديم والحالة تلك جيد وخطوة إيجابية تحسب لمن يأخذ بها ويتماشى مع استمرارية الحياة بشكل إيجابي. الحاضر في نظر البعض منا يعني الحضارة والتمدن والمدن وكل هذه المتغيرات الجديدة، التي أصبحت لا تقبل سوى المصلحة ولا تتفاعل مع أدنى درجات البساطة، ولا تعترف برصيد يحمله الشخص من مشاعر وأحاسيس بل وفطرة وسجية، وهي في الوقت نفسه معقدة غير مصغية لنداءات كثيرة تتعلق بالقلب والروح والمشاعر، صامتة عن كل هذا صارخة صائحة في وجه الهدوء. كنا في زمن الأمس لم تستعبدنا حضارة الدنيا والأجهزة ولا يشغلنا شيء واليوم انشغلنا حتى في صلاتنا لم يبق لنا شيء من حرية. تحاصرنا الرسائل والمكالمات ورنين الأجهزة الثابتة والمحمولة حتى في المبيت ووقت الخروج والدخول حتى وقت الأكل أو العبادة أو النوم بدون أي داع ولا أهمية، حتى محاولة إثارة النكتة وتصنعها لم تكن النكات بحجم الابتسامات التي نأملها، ذلك لأن أغلبها سمجة تبكي أكثر مما تضحك أو على الأقل لا تتوافق مع الذوق العام الجاد الذي ورثناه ويتكئ على الأصالة يقول الشاعر: سعد بن سبيل: على وضح النقا نلعب ، على وضح النقا صافين قبل مانعرف التمثيل والفديو والافلامي قبل نعرف مخططنا ونسكن فلة الدورين قبل يقرن بنات الناس ويشيلن الاقلامي قبل نفقد ظلام الليل قبل ننور السيدين قبل تسود الايام وتطول يدين الاقزامي قبل نخلف نوايانا ونصبح بين جيم وسين قبل نصبح حبايب ليله وفي ليله أخصامي قبل مانبني احلام من القرطاس والفلين قبل نحكم على بعض السلوم بحكم الاعدامي قبل نصبح مثل قصة غراب ضيع الثنتين وفي وسط الفلل نبني بيوت الشعر وخيامي حتي قال: هو الوقت اختلف ياناس والا الناس مختلفين أنا وان قلت دنيا مدبره مانيب منلامي عليم الحال سبحانه بماقدر لنا راضين وهو في كل ماتخفي لنا الايام علامي